-
-
-
-
والحارس والسائق، في نظرات ارتياب وتوجس ..
وارتفع صوت الحارس محذراً:
- إياك ان تقترب من المركبة يا هذا، وإلا أطلقت عليك النار .. وعلي المسافر الذي يحمل اسم " لوري " أن يفصح عن شخصيته ..
وفي صوت مرتعش تساءل المسافر:
- من يريدني؟ .. ماذا حدث؟ .. أهذا أنت يا " جيري "؟ .. ومن العتمة، أتاه الجواب: " أنا ياسيدي " ... - ماذا حدث؟ .. - ان " ت. وشركاه " كلفوني باعطائك هذه الرسالة ..
وقال " لوري " بصوت رزين: " أيها الحارس .. انني أعرف هذا الرسول. في استطاعته ان يدنو من المركبة، فلا خوف منه ".
ونهض " لوري " من مكانه إلي باب المركبة، بينما اقترب في بطء، فارس يمتطي فرساً، ماداً يده بورقة صغيرة، وعينه علي الحارس الذي وقف مستعداً لأي حركة.
وتناول " لوري " الورقة المطوية، وقال للحارس في هدوء:
- لا تخشي.. كن واثقاً بي. أنا من موظفي مصرف تلسون، وذاهب الي باريس في مهمة سرية ..
ومد للحارس يده بريال قائلاً: " خذ هذا لك .. تستطيع أن تشرب به بعض الخمر .. أود ان أقرأ الرسالة " ..
وأجابه الحارس دون ان يطرف بعينه " ..
- تقرؤها بشرط ان تسرع ياسيدي ..
وعلي ضوء المركبة، فض الرسالة .. وبصوت خفيض أولاً، ثم بصوت جهوري قرأ هذه الكلمات: " انتظر الآنسة في دوفر " ..
وقال للحارس بلهجة ودية: " أرأيت ان الرسالة مقتضية جداً "؟ !.
والتفت إلي الرسول قائلاً:
- قل لهم يا " جيري ": " لقد بعث الميت ".
وعاد المسافر إلي مكانه من المركبة، بينما سارت في طريقها منحدرة أعالي التل، كأنما تذكر الحارس شيئاً مهماً، فصاح بالسائق:
- أسمعت فحوي الرسالة يا " توم "؟.
وأجابه السائق كمن يصحو من حلم: سمعتها " ..
- هل فهمت منها شيئاً؟ .. - كلا .. علي الاطلاق .. - ولا أنا أيضاً ! ..
وبين المنحنيات والمنعطفات، راح الرسول يعدو بجواده في بطئ، محاولاً التخفي قد استطاعته، بحيث أمال قبعته علي عينيه كي تحجبهما عن المتطفلين. ووضع لثاماً عريضاً أخفي ذقنه وحنجرته، وكاد يصل الي ركبتيه. فاذا وقف ليتناول شراباً في احدي الحانات،
أزاح اللثام قليلاً، وأفرغ الكأس في جوفه دون أن يكشف عن أي جزء من وجهه ..
كان في بعض الأحيان يترجل متماملاً متحيراً في كنه الرسالة المنوط بها، حتي ليكاد يضرب رأسه الصلعاء الرثة من فرط دهشته.
كان الليل بظلامه يثير في نفسه صوراً قاتمة متعددة. وكانت الرسالة في يده تزيد من قتام تلك الصور. بما تحوي من كلمات غامضة مزعجة .. فقد كان عليه أن يسلمها للحارس الليلي لمصرف نلسون في كوخه القائم عند باب ذلك المصرف تماماً .. وعليه الآن أن يسرع، لأن الحصان بدأ يجفل .. كأنما كان هو الآخر يحس بخطورة المهمة التي أخذها علي عاتقهما ..
وفي المركبة، كان الركاب الثلاثة يتأرجحون بين النوم واليقظة، وأفكار كل منهم تائهة فيما عسي أن يصادفهم في الطريق .. بينما المركبة تشق طريقها وسط الظلام الدامس.
وفي ركن من أركان المركبة، جلس مسافرنا مستر " لوري " .. وذراعه داخل السير الجلدي، ليمنعه من الارتطام بصاحبه الذي بجواره، وليجعله ثابتاً في مكانه مع الارتجاج الذي تحدثه الأرض الصخرية في العربة.
ان الناس يهرعون إلي مصرف تلسون يسحبون أموالهم قبل أن يعلن إفلاسه، وهو بصفته أحد العاملين في هذا المصرف - منذ أعوام طويلة - يهمه أن يحتفظ بأموال المودعين علي أي شكل، وكانت الصور تختلف في مخيلته، وهو منكس الرأس، وعيناه نصف مغمضتين .. بينما النوافذ الصغيرة في جوانب المركبة تبدو عليها ظلال باهته من نور المصباح الأمامي الصغير، وقد تحول كل شئ أمامه، وإذا به في مصرف تلسون، والحركة علي اشدها، واذا بالغرف المحصنة التي تقع تحت أرض المصرف وقد فتحت أمامه، وبدت له الذخائر والكنوز سليمة كما تركها تماماً.
كانت كل هذه الأشياء مختلطةفي شعوره بالألم، رغم أنه كان يعيش فيها .. الا أن المشهد الذي لم يستطع أن يمحوه من ذهنه طوال الطريق، هو أنه سيخرج أنسانا من القبر ويعيده إلي الحياة ! وجه رجل في الخامسة والأربعين، مشتمل الرأس شيباً قبل الأوان .. وكم من مرة توجه إليه " لوري " بالسؤال الذي يحيره: - كم لبثت يا صحبي رهن الثري؟ .. فيجيبه ذلك الوجه العجيب: - لبثت زهاء ثمانية عشر عاماً ..
فيسأله لوري:
- كل الاستيلاء .. ومنذ أمد مديد ..
ومرة أخري يعود " لوري " إلي السؤال:
- والآن .. هل أيقنت بالعودة إلي الحياة؟
ويجيبه الشبح:
- أما اليقين، فلا يقين .. وانما هو ما يقال لي في هذا الحين.. - هل أفهم من هذا انك استعدت تعلقك بالحياة؟ - أما هذا فلا اجزم به. - ماذا تنتظر؟ .. أتنتظر برهاناً؟ .. اني مستطيع أن آخذك بيدك لتري الحياة رأي العيان كي تعرف أأنت فيها راغب أم عنها مشيح؟ !
وهنا ينتاب الشبح شئ كثير من التردد والقلق، ثم يناشد " لوري " قائلاً ":
- رحماك ! .. أخاف إن رأيت الحياة رأي للعيان بعد انقطاع العهد كل هذا الزمان المديد،
أن تكون الفرحة أقوي من احتمالي فتقضي علي القضاء الأخير !.
ولكنه فصي أحيان أخري، كان يرتجف رجفة من نوع آخر.. ويختلج صوته وتتندي بالدموع عيناه، ويقول:
- ناشدتك الله أن تفتح لي أبوابها وتدخلني رحابها !
وعلي جناح الخيال ايضاً، كان " لوري " ينكب علي التراب، ويمعن في طبقاته حفراً وتنقيباً بكل ما يحضره من أداة، فكل همه أن يخرج من تحت الثري ذلك الانسان المسكين، إلي ان ينبهه من سبحات خياله صوت ارتطام المطر بزجاج النافذة .. فاذا به يرعوي عن خياله المسرف ليتمثل له خيال من نوع آخر، يري فيه مبني المصرف،وما احتدم فيه من نشاط بالأمس القريب، وتتراءي له الغرف الغائرة تحت الأرض بما فيها من ودائع ونفائس .. ثم يتمثل له ذلك الرسول الذي حمل الجواب الذي ظل ينتظره، وعندئذ يرنو إلي بعيد ثم يغلبه الكري علي أمره ... فيغفو إلي ان يلسع وجهه شعاع شمس الصباح. فيفتح عينيه مجفلاً، ويقلب نظره في فجاج الأرض من حوله، وقد غمرها من ضياء الصبح جو ينشر السلام في ربوعها ..
وتنهد " لوري " وهو يرفع ناظريه إلي الشمس الساطعة، ويقول:
- ثمانية عشر عاماً ! .. يالها من فترة طويلة في عمر انسان من ابناء الفناء !. إن العقل لا يستطيع أن يتصور ردحاً طويلاً كهذا، يقضيه انسان رهين الثري مقبوراً !
كانت الشمس قد ارتقت في كبد السماء، عندما تقدم رئيس الخدم في فندق الملك جورج إلي باب عربة البريد ليفتحه في حفارة بالغة، كي يهبط منه المسافرون القادمون من لندن. ولم تكن حفاوته تلك مجرد ترحيب بنزلاء ينتفع منهم الفندق، بل كانت تنطوي علي معني خاص غير معني الترحيب التجاري المألوف .. هو معني التهنئة الرياضية لأولئك المغامرين البواسل. ذلك ان اقدام مسافر علي ان يستقل عربة البريد فيأيام الشتاء من مدينة لندن الملكية إلي مرفأ دوفر، يعتبر ولا مراء عملاً بطولياً فيه معني المغامرة والتحدي، يعقد للفائز بالسلامة فيه لواء كألوية الفائزين في المباريات والمغامرات المحفوفة بالمصاعب والأهوال .. !
ولكن عربة البريد التي فتحها رئيس الخدم في الفندق لم يقدر لها في ذلك اليوم أن ينزل منها إلا مسافر واحد .. أملا زميلاه في تلك الرحلة، فقد هبطا من المركبة قبل أن تبتغ رحلتها الأخيرة، وكان هذا الراكب الأوحد هو صاحبنا مستر " لوري " الذي برز من مكمنه مشعث الشعر والبزة، يكسو نعليه الوحل، وتعلو ثيابه وقبعته ألوان مختلفة من الغبار والأقذار.
وكان أول ما ابتدر به مستر " لوري " رئيس الخدم في الفندق هو السؤال:
- هل ينتظر أن تبحر في الغد سفينة إلي كاليه؟
هذا هو المفروض ياسيدي علي شريطة أن تسمح الحالة الجوية .. فان تيار لجزر في انحساره عن دوفر، سيسمح للسفينة غداً - بعد الظهر - بسهولة الابحار إلي شاطئ فرنسا
بعون الله .. هل أعد لسيدي فراشاً؟
هئ لي غرفة نوم، وأبعث إلي بالحلاق، وبقدر من الماء الساخن ... وليتولي أحد تنظيف هذا الحذاء .. ثم قال لرئيس الخدم:
- يستحسن أن تعدوا منذ الآن حجرة تصلح لاستقبال سيدة صغيرة السن، من المنتظر ان تصل في أي وقت من أوقات هذا النهار .. وستطلب مقابلة مستر " جارفس لوري "، أو نزيل من العاملين في مصرف تلسون .. وسأكون أنا السيد المقصود علي أي الحالين .. فأرجو ان تبلغوني نبأ وصولها علي الفور ..
ومضي مستر لوري إلي تناول وجبة الصباح في شهية زائدة، ثم غادر المائدة ليرقاض فوق الشاطئ الذي تشرف عليه مدينة دوفر. ولم يمكن ذلك الشاطئ سبيلاً ممهداً للسالكين، وإنما هو مكان تكتنفه الصخور والحجارة .. والماء من أمامه كالوحش الهائج في معظم الوقت ن لا يكف عن مهاجمة تلك الصخور البيضاء مرغياً مزبداً .. كأنه يتهدد المدينة الصغيرة التي يعيش مكانها علي استغلال ذلك البحر، واستقبال من يركبون متنه قادمين من فرنسا، أو ذاهبين إليها ..
ولم يلبث نهار الشتاء القصير ان مالت شمسه إلي الغروب .. ولم يكن الشاطئ في ذلك العهد يظفر باضاءة ولو متفرقة .. فمملكة الليل علي الشاطئ دوفر تخضع لسلطان آخر غير سلطان الأمن والسلام .. وهو سلطان مملكة المهربين الذين تتباين بضاعتهم من الاشخاص إلي الخمور إلي الأسلحة إلي اطراف المؤامرات، أو نفائس الأموال والمسروقات. وتلك كلها سلع قد تعرف طريقها الي الأسواق العلنية في النهار، ولكنها قبل ان تصل إلي تلك الاسواق، لتجني الثروة الطائلة للمتجرين فيها، لابد أن تتسلل خلسة إلي الشاطئ الصخري تحت جنح الليل ..
وليس عجيباً اذن ان يكون الميل علي شاطئ دوفر - في ذلك اليوم - صدي شبيه به في حلكته وقتامته، لدي رجل حصيف لديه زاد ضخم من معرفة أحوال الدنيا علي الشاطئين الفرنسي والانجليزي مثل صاحبنا مستر " لوري " .. فكأنما حركت اشباح الظلام صوراً سوداء فيمخيلته، فهجر الشاطئ الي الفندق، واتخذ لنفسه مجلساً عن قرب من النار المتأججة في حجرة المائدة، واذعن لخواطره في وقار وسكينة، الي ان يضعوا أمامه صحاف عشائه.
وكانت عن كثب منه زجاجة خمر معتقة .. يجرع منها الكأس بعد الكأس - في فينات متباعدة - كأنه يحدو بنشوتها موكب خواطره التي تتسابق علي صفحة النار المشبوبة، وحمرة خديه تزداد اتقاداً بتأثير الدفء وتأثير الخمر ..
وتناهت الي سمع مستر " لوري " - وهو في جلسته المطمئنة تلك - أصوات قرقعة عجلات علي أرض الطريق، ثم وقوف الخيل أمام باب الفندق .. فخامره الظن ان تكون تلك المركبة هي التي تقل من أمضي يومه في انتظار وصولها.
وعلي ضوء ذلك الأمل، طوح في جوفه بالجرعة الأخيرة من اخر كأس تمخضت عنها زجاجة الخمر المعتقة ..
ولم يخب ظنه، فما هي الا دقيقة، حتي أقبل عليه رئيس الخدم فانحني بين يديه وقال:
- سيدي .. لقد حضرت من لندن في هذه اللحظة الآنسة " مانيت " وأعربت فور وصولها عن أملها في الاجتماع بمندوب مصرف تلسون الموقر .. - ألا تريد أن تتناول طعامها أولاً؟ ..
- لقد عرضنا عليها تلك الخدمة ياسيدي، فقالت أنها أصابت في الطريق شيئاً من الطعام. وكانت تبدو عليها ياسيدي اللهفة الشديدة علي الاجتماع بمندوب مصرف تلسون في أول فرصة تسنح له ..
فنهض مستر " لوري " وسوي شعره المستعار، وثياب صدره وكميه، ثم تبع رئيس الخدم إلي الحجرة التي نزلت بها الآنسة " مانيت " وهي حجرة مترامية داكنة الأثاث لامعة. وقد عجزت الشمعتان الموقدتان - في وسطها - عن تبديد طبقات الظلام المتراكمة في أركانها البعيدة. وفي بعض تلك الاركان جلست الآنسة " مانت " فكان موضعها خافياً علي السيد الذي عبر باب الحجرة الي ان اقترب من نار المدفأة .. فاذا مائدة ضخمة من ورائها صبية لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، ولم تزل عليها الثياب التي ترتديها السيدات للسفر في ذلك العهد ..
وتبين فيها مستر " لوري " انسانة صغيرة الجسم، جميلة الطلعة، ذهبية الشعر، زرقاء العينين .. تطل منهما نظرة فيها من الصفاء قدر ما فيها من الجرأة والاستطلاع، والاصرار. وعلي الفور تذكر مستر " لوري " وجه الشبه الشديد بين هذه الانسة الحسناء وبين طفلة حملها بين ذراعيه يوما ما ن فاجتاز بها لجة هذا البحر الطامي في مثل هذا الشتاء.
ولم يظهر علي وجه مستر " لوري " شئ يدل علي ما يدور في مخيلته، بل انحني في وقار رسمي أمام الآنسة الشابة، فقالت له بصوت رخيم كأنه شدو البلابل:
- تفضل بالجلوس ياسيدي ..
وانحني مستر " لوري " انحناءة أخري ثم جلس، وبادرته قائلة:
- لقد وصلتني بالأمس ياسيدي رسالة قصيرة من مصرفكم، تحيطني علماً بأن ثمة جديداً فيما يختص بثروة والدي المتواضعة، ذلك الوالد الذي لا أذكره لأنه رحل عن هذه الدنيا منذ زمن طويل .. وطلبت الرسالة مني أن أتوجهالي باريس لذلك الغرض، كي أقابل مندوباً خاصاً من المصرف أوفد لهذه الغاية. ولما كانت ظروفي لا تسمح لي بقطع تلك الرحلة الطويلة الخطيرة بمفردي، فقد رجوت مصرف تلسون بلندن أن يتفضل مشكوراً فيسمح لي بالسفر في صحبة مندوبه الخاص الي باريس. وقد قيل لي ياسيدي، ان المندوب سبقني إلي الرحيل صوب دوفر، ولكنهم بعثوا برسول عاجل لحق به في الطريق ليطلب اليه انتظاري في دوفر كي نعبر البحر معاً، وأتم الرحلة في صحبته ورعايته حتي غاية المطاف في باريس .. - أنا هو المندوب الذي أسعده الحظ بشرف انتظار الآنسة كي أضع نفسي في خدمتها .. - بل أنا السعيدة ياسيدي بهذا الشرف العظيم. وقد قيل لي في لندن أن لديكم حرية التصرف باسم المصرف، وأنكم تستطيعون توضيح ما خفي من أمر هذه الرسالة، وطبيعة هذه الرحلة. وقد فهمت من مضمون الكلام عند زيارة المصرف، ان الأمر ينطوي علي سر مسرف في الغرابة. وطبيعي جداً ياسيدي ان تستبد بي اللهفة والفضول لمعرفة هذا السر الذي يتناول أمراً حيوياً جداً يتعلق به تيار حياتي ..
وصمتت الآنسة .. وأخذ مستر " لوري " يتنحنح، وقال:
الحقيقة ياآنسة اني لا أمري كيف ابدأ الحديث ..
وحارت عيناه، وهو يتفحص ذلك المحيا الصغير الناصر، والجبين الأشم الجاد .. كأنه يتسأل مشفقاً: هل تقوي تلك البنية اليافعة علي عمل ما سيفضي به من عجائب الاسرار؟ .. وإذا بعينيه الثاقبتين تلتقيان بالعينين الزرقاوين الجريئتين المتطلعتين، وإذا بسحابة تظلل هاتين
العينين. ونظرة تساؤل غامضة تطل منهما. ثم قطبت جبينها المرتفع، وسألته:
- أهذه ياسيدي أول مرة نلتقي فيها؟ .. أليس لي بك عهد من قبل في مناسبة ما من المناسبات؟.
فابتسم مستر " لوري " ابتسامة يسيرة غامضة، وقال:
- ربما. ولكنني في هذا المقام يا آنسة لا أمثل شخصي، بل أمثل المصرف الذي وكل الي مهمة معينة .. ولكن اذا سمحت لي الآنسة فاني امهد لمهمتي لديها بحكاية .. حكاية ياسيدي؟ .. - نعم .. حكاية عميل قديم فاضل من علائنا .. وهو رجل فرنسي محترم. كان من خير رجال زمانه عقلا وخلقاً .. كان طبيباً فرنسياً نابغاً ياسيدتي .. - ومن أي بلدان فرنسا كان هذا السيد؟ .. من " بوفيه "؟ .. - أجل " بوفيه " كانت موطنه. وهو في هذا شبيه بالمسيو " مانيت " او مواطن له .. ولكن الرجل الذي أتحدث عنه صادف شهرة مستفيضة في عاصمة فرنسا نفسها. فلم يكن في باريس كلها انسان يجهل مكانته في فنه ن وكان من دواعي سروري يا سيدتي، أن تتصل بيني وبين هذا السيد أسباب المعرفة، لا علي أساس شخصي بطبيعة الحال، ولكن علي أساس عملي. وكان ذلك منذ عشرين عاماً، أذ كنت أعمل وقتئذ في فرع مصرفنا بباريس. وكنت موضع سر ذلك السيد الطبيب في ما يتصل بمعاملاته المالية .. - منذ عشرين سنة تقول؟ - نعم منذ عشرين سنة. وفي تلك الفترة يا آنسة أقدم ذلك السيد الفرنسي الفاضل علي الزواج من سيدة انجليزية. وكنت أحد من شهدواعلي ذلك العقد. - يبدو لي ياسيدي ان هذه الحكاية هي بحذافيرها حكاية أبي .. بل يخيل إلي الآن أنه عندما توفيت أمي - بعد وفاة أبي بسنتين - وقد أصبحت طفلة يتيمة الأبوين ن توليت أنت ياسيدي تكاليف نقلي بنفسك إلي بلاد الانجليز ..
وارتسمت علي المحيا الصغير الجميل مشاعر متضاربة، ومدت الحسناء الشابة يداً صغيرة مرتجفة نحو ذلك الكهل الانجليزي الرصين، فبادر إلي الامساك بتلك اليد، ثم رفعها في اعزاز إلي فمه وبعد أن سكن جائشها قال لها:
- لقد صدق حدسك يا آنسة " مانيت " .. فأنا هو ذلك الصديق الذي قفلك من فرنسا الي انجلترا .. ولكن كما قلت لك من رجال الاعمال لا من رجال العواطف، فان عملي في المصرف يستغرق وقتي كله، حتي أنني لم اسع إلي رؤياك منذ ذلك الحين البعيد. ولكن شاءت الظروف أن اكون الشخص الذي يوكل اليه ابلاغك سراً خطيراً تتغير به صفحة حياتك .. - أجل ياسيدي .. انني متلهفة لمعرفة هذا السر .. - وهذا السر متعلق بالحكاية التي رويتها عن ابيك .. وأني لآمل أن تجدي من الشجاعة والصلابة ما يعينك علي تحمل النبا المفاجئ، فان اباك يا سيدتي الذي تظنين أنه مات، لم يمت .. بل تخفي في مكان لا يختلف كثيراً عن الدار التي ينتقل اليها من تستأثر بهم رحمة الله! ..
ودارت لدنيا بالآنسة الشابة، فتشبثت يداها بالمائدة، واستأنف مستر " لوري " حديثه قائلاً:
- إذا علمت يا آنستي أن موته لم يكن إلا ستاراً ظاهرياً لعملية اختفاء مروعة بعد ان اختطفه من احبائه عدو له مبين من مواطنيه الفرنسيين الذين يخول لهم نظام الامتيازات والطبقات أن يستخدم شيئاً يسمي بالخطابات الملكية المختومة. حيث يوقع الملك للنبلاء خطابات بيضاء، ليسطروا فيها اسم من يشاؤون من الاعداء، والمدة التي يحددونها لدفن ذلك العدو حياً في غيابات السجون الرهيبة تحت الأرض. وان أباك كان ممن سطرت
اسماؤهم في خطاب مختوم ملكي، وان والدتك اراقت ماء وجهها في التوسل إلي الملك والملكة ورجال القصر وكبار رجال الدين، ليعرفوها بحقيقة مصيره، إذا عرفت هذا كله يا آنستي، فقد اجتمعت لك قصة أبيك المسكين، الطبيب الفرنسي الفاضل. - أواه ياسيدي .. وماذا أيضاً؟ - وقد حدث هذا كله، قبل ان تلد زوجة الطبيب طفلة صغيرة جميلة، آلت علي نفسها ألا تكبل حياتها بالشكوك والقلق، فأخبرتها منذ نعومة أظافرها أن أباها انتقل إلي دار البقاء .. حتي إذا توفيت هذه الأم تركت هذا السر المغلق أمانة بين ايدينا .. ولبثنا نجهل مصير ابيك. ولكن كل الذي نعرفه أن ميراث ابويك لم يكن شيئاً كثيراً من حيث المادة .. هذا القليل هو الذي كنا نشرف علي تدبيره في المصرف لنفقات حياتك .. وما كنا لنكشف السر لك، لولا أننا علمنا أخيراً ان والدك لم يزال علي قيد الحياة. وان كنا لا ندري علي اي حالة أصبح بعد انقضاء تلك المدة الطويلة في السجن. وخلاصة ما نعرفه عنه، أن خادماً قديماً مخلصاًمن خدمه، قد استضافه في بيته بعد خروجه من سجنه .. وإلي هناك، سنمضي كلينا لاتحقق بنفسي من شخصيته. وهذا قصاري ما ستطيعه بصفتي رجل أعمال، ووكيلاً قديماً.
ودارت الدنيا مرة اخري، أو ثالثة، بالشابة الحسناء .. واختلطت مشاعرها بين الألم والرجاء والمباغتة والسرور، وهمست:
- لا بد انه غداً بعد تلك السنين سبحاً هزيلاً .. يالأبي المسكين ..
وانبري مستر " لوري " يرفه عنها جهده، ويهون الأمر عليها:
- لم أحاول يا آنستي ان اخفي عنك شيئاً .. فها انت الآن تعرفين من هذا الأمر كل ما أعرفه، ولم يبق عندي ما اقوله لك في هذا الشأن سوي ان والدك خرج من السجن يحمل اسماً غير اسمه.. ولا أحد يدري متي الصق به هذا الاسم بعد ان تلاشت ذاكرته، ونسي كل شئ عن ماضيه .. وليس امامنا الآ، فرصة لفحص هذا الموضوع واستقصاء الحقيقة فيه، حتي لا نتعرض للاحتكاك بأشخاص من ذوي النفوذ في فرنسا، لا طاقة لنا باثارة سخطهم .. وانما ينبغي ان نرحل بأبيك عن فرنسا بأسرع وقت وتحت ستار الكتمان المطلق .. ويكفي دراك صدي التكتم أن اذكر لك ان اوراقي لا تحمل اشارة صريحة إلي موضوع والدك وانما هي الكناية البعيدة: " بعث الميت ".
وفجاة شعر مستر " لوري " ان الآنسة " مايمت " غابت عن وعيها، وهي جالسة في مقعدها مفتوحة العينين. وهذا سر سكوتها عن التعليق أو المقاطعة، أو الاستيضاح، فرفع صوته يستدعي الخدم ودخلت علي رأس شلة الخدم امرأة عجيبة الملامح، حمراء الشعر والوجه، دفعت مستر " لوري " بعيداً في خشونة .. وجعلت تصيح بالخدم كي يأتوا بالأملاح المنعشة، والخل، والماء البارد، لاسعاف الآنسة. وعلي قدر خشونتها مع مستر " لوري " والخدم، كانت مترفقة بالآنسة " مانيت " وهي تهدهدها بأحب الالفاظ واعذبها في حنان. لا يقل عن حنان الأمهات .. ثم أخذت تصب علي مستر " لوري " ألواناً من التوبيخ والتبكيت:
- ان وجهك أسود كثيابك يا رجل السوء ! .. ألم يكن في استطاعتك أن تترفق بها وانت تنبئها بما ينبغي أن تعلمها به؟. - ولكن لم اعرف انها تأثرت إلي هذا الحد ! .. - لم تعرف؟ .. هيه؟ .. سأجعلك أنا تعرف ! .. آه يا حبيبتي.. - هل أنت مرافقتها التي ستصحبها إلي فرنسا؟. - إذا كان مقدراً لها أن تذهب إلي فرنسا فسأذهب معها ..
وعند هذا الحد خرج مستر " لوري " ليترك لهذه السيدة الحمراء مهمة أفاقة الآنسة
الصغيرة من اغمائها ..
كان حي سانت انطوان من أفقر أحياء باريس. حيث انطبعت وجوه الاطفال وأصواتهم الحزينة بطابع الرجال .. وحيث كان الجوع مرتسماً بوضوح علي وجه كل رجل وكل سيدة. ولم تكن المحال التجارية تحوي غير كميات قليلة من اللحم الردئ والخبز الجاف. والمحلات الوحيدة التي ازدهرت بعض الشئ هي محال بيع الأسلحة التي كانت تحتوي علي أمضي السكاكين والمدي واخطر انواع البنادق .. هذه الاسلحة التي يخيل اليك انها تنتظر بهدوء ذلكاليوم المنشود حيث تنطلق الي الخارج لتمعن في القتل وسفك الدماء.
وقد حدث ان سقط أحد براميل النبيذ في شارع سانت انطوان فتحطم وسال النبيذ الاحمر ليكون بركاً صغيرة في الفجوات الواقعة بين حجارة الطريق الجافة وفي الحال طرح جميع المارون اعمالهم جانباً وأسرعوا الي المنطقة ليحصلوا علي بعض النبيذ المراق قبل ان يتسرب الي باطن الأرض. فركع البعض علي ركبتيه وراح يحاول جمع النبيذ في راحتيه .. ولكن معظم النبيذ تسرب من بين أصابعهم وأحضر بعضهم أقداحاً محاولاً ملأها .. وفريق ثالث آثر ان يغمس خرقاً بالية في النبيذ حتي إذا ما تشبعت به راح يمتصها بالحاح ليعيد الكرة .. واثناء كل هذا كانت الضحكات المرحة تتناهي من شارع الفقر والحرمان .. وبعد لحظات انتهي النبيذ، فماتت الضحكات، وعاد البؤساء إلي اعمالهم التي كانو يزاولونها.
تقدم رجل طويل القامة وغمس اصبعه في الوحل الذي احمر لونه اذ تشبع بالنبيذ ثم خط علي الجدار أربعة أحرف كبيرة " الدم " لابد أن يأتي اليوم الذي تسيل فيه الدماء في شوارع سانت انطوان وتصبغ حجارتها باللون الأحمر ..
اتخذ برميل النبيذ طريقه إلي حانوت النبيذ القائم علي الناصية، حيث كان صاحبه مسيو ديفارج واقفاً ببابه .. ومسيو ديفارج رجل قوي الجسم .. عاري الرأس في الثلاثين من عمره .. وله وجه حسن التكوين ينم عن خلق كريم، كما يدل علي الحزم وقوة الارادة والبعد تماماً عن مواطن الضعف .. انه من الرجال الذين يخشي بأسهم وخاصة عندما ينقلبون أعداء ..
وقف مسيو ديفارج يراقب معركة النبيذ بعض الوقت وهو يحدث نفسه " هذا ليس شأني .. لقد تحطم البرميل فعليهم احضار غيره " ثم لمحت عيناه الرجل الذي كتب الكلمة المخفية علي الجدار .. فناداه قائلا:
- جاسباره .. هل أنت مجنون؟؟ لماذا تكتب هذا في طريق عام؟؟.
أليس ثمة مكان أصلح من هذا لتكتب فيه كلمات كهذه ..؟
وكانت مدام ديفارج جالسة في الحانوت عندما عاد زوجها، وهي سيدة في سن زوجها تقريباً .. لها عينان شديدتا الملاحظة، ووجه ينطق بالقوة، وطباع غاية في الهدوء والسكينة .. وعندما دخل زوجها سعلت بهدوء ثم نظرت في اتجاه معين كأنما تريد أن توجه نظره إلي بعض الناس الذين دخلو الحانة في هذه اللحظة.
التفت صاحب الحانة فوقع بصره علي رجل مهذب متقدم في السن وسيدة شابة .. وقد اتخذ مقعديهما في أحد الأركان .. كان هناك أناس آخرون في الحانة .. ولكن هذين الشخصين وحدهما كان يبدو عليهما انهما غريبان .. وبينما كان يشق طريقه اليهما لاحظ ان
الرجل المسن قد لفت نظر رفيقته الشابة وكأنه يقول لها: " هذا هو رجلنا " ..
قال ديفارج يحدث نفسه: " عجباً .. ! ماذا يفعل هذان الشخصان هنا؟ انني لا اعرفها " ثم تظاهر بأنه لم يلحظهما .. وراح يتحدث الي ثلاثة رجال كانوا يحتسون النبيذ عند البار ..
قال أحدهم موجهاً كلامه إلي ديفارج:
- كيف الحال ياجاك .. هل شُربكل نبيذ البرميل المحطم.؟
فأجاب ديفارج: كل قطرة فيه يا جاك ..
قال الثاني: ليس من العادة ان تتذوق هذه الحيوانات البشرية طعم النبيذ وأي شئ آخر عدا الخبز الأسود والموت .. أليس كذلك يا جاك ..؟
ووضع الثالث قدحه وهو يقول:
- آه .. انه هذا القطيع البائس يحمل في فمه مرارة لأنه يعيشه عيشة قاحلة هل أنا علي حق يا جاك ..؟
فأجاب ديفارج: نعم .. انك علي حق يا جاك ..
وهنا أنت مدام ديفارج بحركة أثارت انتباهه فوجه حديثه الي الرجال الثلاثة قائلا:
- أيها السادة .. ان الغرفة التي يريدونها تقع في أعلي الدرج .. أذهبوا اليها عن طريق الفناء، وبينكم من ذهب اليها قبلا وهو يستطيع الآن أن يقودكم اليها فدفعوا حسابهم وانصرفوا .. وهنا تقدم الرجل المسن من ديفارج وطلب التحدث اليه .. وكان حديثهما قصيراً وقد بدا الاهتمام الشديد علي وجه ديفارج من أول كلمة .. وبعد برهة من بدء الحديث أطرق برأسه ثم خرج. وهنا أشار الرجل الي رفيقته الشابة، ثم انصرفا بدورهما ..
وأثناء هذا كله كانت مدام ديفارج منهمكة في عمل(التريكو) ولم تمر الأمر أي اهتمام ..
ولحق مستر جارفيس لوري(الرجل المسن) ومس لوسي مانيت بديفارج في الفناء الذي سبق أن أرسل اليه الرجال الثلاثة .. وهناك أتي ديفارج بعمل مثير فقد ركع علي الأرض باحدي ركبتيه ثم لثم يد السيدة الشابة ..
(لقد كان ديفارج يوماً ما يعمل خادماً عند الدكتور مانيت والد لوسي مانيت).
ونهض ديفارج واقفاً وقد علا وجهه تغير ملموس .. فاختفت علامات الطيبة لتحل محلها نظرة حقد وكراهية .. الكراهية لهؤلاء الناس الذين ارتكبوا جرماً فظيعاً مع من يحب ..
قال ديفارج: ان الدرج مرتفع .. فهيا بنا نصعده ببطء ..
فهمس مستر لوري: هل الدكتور مانيت بمفرده ..؟
أجاب ديفارج: بكل تأكيد، فقد تعود أن يبقي وحيداً مدة طويلة حتي لم يعد يطيق وجود شخص آخر ..
- وهل تغير كثيراً؟ - تغير ..؟ انكما لن تستطيعا التعرف عليه. - وعندما اقتربوا من نهاية الدرج أخرج ديفارج مفتاحاً من جيبه. - هل تغلق بابه بالمفتاح دائماً ..؟ - أظن .. فهذا ادعي للسلامة .. - لماذا ..؟ - لماذا ..؟ لأنه عاش ردحاً طويلا والباب مغلق عليه حتي أصبح يخاف الباب غير المغلق ..
سأل مستر لوري: وهل هذا ممكن !
فأجاب ديفارج بمرارة:
- ممكن ..! انه ممكن جداً في هذه الدنيا الجميلة .. بل ليس ممكناً فحسب فهو يحدث دائماً، وكل يوم، هذا هو حال فرنسا !
كان الحديث يجري بصوت خافت، أشبه بالهمس حتي لا يصل إلي أذني السيدة الشابة، ولكنها ارتجفت عندما وصلو إلي قمة الدرج، كما امتقع وجهها وعلته علامات الخوف والفزع بصورة دفعت مستر لوري إلي تشجيعها بقوله:
- تشجعي يا عزيزتي .. بعد لحظة يذهب الماضي بسوءاته .. فلا تفكير إلا في المستقبل والسعادة التي ستفدقينها عليه.
وأخيراً أوشكوا علي الوصول إلي القمة .. عندما فاجأوا ثلاثة رجال عند إحدي منحنيات الدرج وهم يسترقون النظر الي داخل احدي الغرف عن طريقفتحة في الباب .. وعندما سمعو اصوات اقدام القادمين استداروا ونهضوا. لقد كانوا الثلاثة الذين احتسوا النبيذ في الحانة منذ قليل ..
قال ديفارج يخاطبهم: دعونا الآن يا سادة فلدينا بعض الأعمال هنا ..
فهبط ثلاثتهم الدرج بهدوء .. واستاء مستر لوري من هذا المشهد وقال هامساً في أذن ديفارج: هل تعرضون مستر مانيت للفرجة؟
- أنا أعرضه فقط علي قليل من اصدقائي المخلصين. ان هؤلاء جميعا يحملون اسمي: جاك " ولكنك انجليزي لا تفهم ما أقول .. ابقي هنا لحظة .. أرجوك.
وطرق ديفارج الباب بمفتاحه لينبه من بالداخل ثم ادخل المفتاح في القفل وراح يديره ببطء ففتح الباب .. ثم نظر داخل الغرفة وقال شيئاً وسمع صوتاً رقيقاً يجيب .. وهنا نظر خلفه وأشار اليهم بالدخول .. فأحاط مستر لوري خصر السيدة الشابة بذراعه .. حملها قليلا وأسرع بها داخل الغرفة.
- هيا .. ادخلي .. ادخلي ..
قالت الفتاة وهي ترتجف رعباً: اني خائفة ..
- خائفة ممن ..؟ - اني خائفة منه .. من أبي ..
فوضع يدها المرتجفة حول عنقه ثم حملها قليلاً وأسرع بها إلي داخل الحجرة، لقد كان العمل داخل الغرفة قائماً علي أتم وجه .. حيث جلس رجل من أشيب الشعر علي منضدة طويلة .. وقد انحني إلي الأمام. وظهره إلي الباب ووجهه إلي النافذة .. واستغرق في عمله .. وهو صنع الأحذية.!
حيا مسيو ديفارج الرأس الأشيب المنكب علي العمل قائلاً: طاب يومك. فارتفع الرأس الأشيب لحظة ثم سمع صوت خافت يرد التحية: طاب يومك.
- أراك ما زلت تعمل بحيوية ونشاط؟
وبعد فترة صمت ارتفع الرأس الأشيب مرة أخري وأجاب الصوت الضعيف:
- نعم .. انني مازلت أعمل ..
كان خفوت الصوت يدعو إلي الشفقة ويبدو انه ليس ناجماً عن الضعف الجسماني فحسب .. ولكنه ناجم كذلك عن قلة التجربة وعدم المران علي الكلام ..
كان العجوز يرتدي ثياباً رثة .. وله ذقن أبيض الشعر .. ووجه نحيل وعينان لامعتان واسعتان غير عادية .. ولم يبد عليه أنه أحسن الزائرين إذ كان من الصعب عليه أن يشعر بوجودهم .. فقد تأثر عقله كثيراً بطول المدة التي قضاها في السجن.
وبهدوء تقدم مستر لوري إلي الامام تاركاً لوسي بجانب الباب .. قال ديفارج: هيا .. لديك زائر الآن أره الحذاء الذي تصنعه .. وأخبره اي نوع من الأحذية هو ..
فأجاب الصوت الضعيف: انه حذاء سيدة .. سيدة صغيرة .. ومن احدث طراز .. ولكنني لم أر مثيله من قبل وأن كنت رأيت الانموذج ..
ثم نظر الي الحذاء بفخر واعجاب بصناعته.
سأل مستر لوري: وما أسمك؟؟
- اسمي ما~ة وخمسة، البرج الشمالي ! - ماذا - هل هذا هو كل شئ؟ - 105 .. البرج الشمالي. - ولكن مهنتك الأصلية ليست صناعة الأحذية .. اليس كذلك؟
فأطرق العجوز قليلاً قبل ان يجيب:
- كلا أنا لست صانع أحذية بطبيعتي ولكني تعلمتها في السجن .. لقد سمحوا لي بتعلمها.
فأمعن مستر لوري النظر في وجهه وسأله: دكتور مانيت الا تذكرني؟ فسقط الحذاء من يد العجوز وبدت عليه الدهشة وهوينظر الي مستجوبه الذي عاد يسأل: - دكتور مانيت ألا تذكر مسيو ديفارج انه هنا؟ ثم ألا تذكر جارفيس لوري المصرفي القديم؟
فراح سجين السنوات الطويلة يقلب نظره بين الرجلين وقد اخذت ومضة من الذكاء تتخذ طريقها علي وجهه. ولكنها سرعان ما اختفت ثم خيم الظلام علي عقله .. وبهدوء التقط الحذاء وعاد إلي عمله ..
وببطء شديد اقتربت لوسي من مقعد صانع الأحذية ثم وقفت الي جواره وقد انكب علي عمله ..
وسقطت منه المدية، وبينما هو ينحني ليلتقطها لمح رداءها فراح بنظر اليها بخوف .. وهو يتنفس بصعوبة .. وبدأ المتفرجون يحسون بالخوف فقد كان يحمل السلاح في يده وكانت لوسي قريبة جداُ منه .. ولكن لم يبد عليها أنها خائفة ..
- من أنت ..؟ هل أنت ابنة السجان؟
أجابت: كلا ..
- من أنت ..؟
لم تستطع الكلام، بل جلست إلي جواره علي المقعد، فابتعد عنها، ولكنها اسرعت فوضعت يدها علي ذراعه .. فاسقط السكين من يده وراح يحدق اليها ثم رفع يده ببطء ليتحسس شعرها الذهبي الكستنائي الذي يتهادي علي كتفيها، وبعد ذلك ألقي نظرة عميقة ثم عاد إلي صناعة الأحذية !
ومرة أخري توقف عن عمله وعاد يتحسس شعر لوسي وهو ينظر اليه عن قرب ويقول:
- انه نفس الشعر .. ولكن كيف ذلك ..؟
ومد يده إلي عنقه وانتزع خيطاً أسود اللون ينتهي بخرقة طويت باحكام وراح يفضها بعناية علي ركبتيه وكانت تضم خصلة من الشعر الذهبي مضي عليها زمن طويل وهي ملفوفة حول أصبعه.
ثم أمسك بشعرها مرة أخري وراح ينظر اليه بدقة وعناية ويغمغم:
- نفس الشعر .. ولكن كيف ذلك. لقد وضعت رأسها علي كتفي ذلك المساء عندما استدعيت الي الخارج. وعندما أحضروني إلي البرج الشمالي وجدت هذه الشعيرات فوق ردائي .. !
واستدار اليها بطريقة مفاجئة مرعبة ولكنها لم تحرك ساكناً .. وعندما خف ديفارج ومستر لوري لنجدتها قالت:
- أرجوكم ألا تقتربوا ايها السادة .. لا تتكلموا ولا تتحركوا..
فسأل الشيخ ! صوت من هذا ..؟ ما اسمك ..؟
فأجابت: أوه ياسيدي .. ستسمع اسمي في وقت آخر وستعرف من كان أبي ومن كانت أمي .. إذ انني لا استطيع ان اخبرك بهذا الآن ولا هنا .. وكل ما استطيع أن أقوله هو أنني أحبك. وأرجوك أن تقبلني وتدعولي .. ثم احاطت عنقه بذراعها واحتضنت رأسه إلي صدرها لو كان طفلاً صغيراً.
- اشكر الله لأن متاعبك قد انتهت .. وسنذهب الي انجلترا لنعيش في أمان وراحة .. استرح .. واشكر الله الذي اخرجك اخيراً من كل هذه الآلام والمتاعب لتنعم بالطمأنينة اخيراً ..
وظل مدة طويلة وذراعها يطوق عنقه ثم انزلق بهدوء الي الأرض .. وتبع المعركة هدوء شامل .. لقد انزلق بهدوء وطمأنينة كما يفعل الأطفال تماماً.
وانحني مستر لوري علي الرجل النائم وهو يقول:
- يجب أن نذهب به الآن .. وفي الحال ..
فسألت لوسي: ولكن هل يقدر علي تحمل الرحلة ..؟
- ان قدرته علي الرحلة أكبر من قدرته علي البقاء في هذه المدينة. ان البقاء هنا مميت بالنسبة له ..
فقال ديفارج:هذا صحيح .. وأري لأسباب كثيرة انه من الأحسن لمسيو مانيت مغادرة فرنسا .. هل استأجر لكم عربة وخيلاً..؟
فقال مستر لوري: هذا عمل .. وما دام العمل يجب ان يؤديه انسان .. فأنا المسؤل عن ادائه ..
فقالت مس مانيت: اذن اتركنا هنا فأنتما تريان كيف استكان وهدأ. أغلقا الباب بالمفتاح بعد أن تخرجا واتركانا معاً .. لا تخاف فسيصبح في أمان تام معي كما سأصبح في أمان معه ..
وخرج الرجلان ليقوما باعداد العدة للرحلة .. وبعد خروجهما جلست الابنة وراحت تراقب أباها .. وأخذت الظلمة تشتد شيئاً فشيئاً. وبقي الرجل هادئاً حتي تخلل بصيص من النور احدي فتحات الباب .. لقد حان وقت الرحيل ..
وكرجل تعود أن يؤمر فيطيع وأن يأكل ويشرب ما يقدم اليه.. نهض الشيخ فارتدي الملابس التي طلب اليه ان يرتديها وخرج معهم. وذراع لوسي في ذراعه .. ويداها بين يديه .. وأخذوا يهبطون الدرج.
ولم يكن هناك كثيرون من رواد الحانة .. فلم ير الشيخ سوي شخص واحد هو مدام ديفارج وقد اتكأت علي حافة الباب وانهمكت في(التريكو) ، وتظاهرت بأنها لم تر شيئاً .
كان بنك تلسن بناء من الطراز القديم جداً في عام 1780، كما كان ضيقاً ومظلماً وقبيح المنظر .. ومع هذا فقد كان اصحابه فخورين بصغره وظلمته وقبح منظره .. فقد كانوا يظنون أنه لو كان أحسن من هذا لقل اعتباره واحترامه .. وكان جميع الرجال الذين يقومون بأعماله متقدمين في السن حتي أنه أصبح من المعتقد أنه لو التحق بالبنك شاب فانهم سيخفونه بعيداً عن الأنظار، حتي يتقدم في السن ويصبح أهلاً بالظهور لأمام الناس ..
وقد حدث ان استدعي أحد موظفي البنك الساعي(جيري كرانشر) الذي تعود قضاء الوقت جالساً بباب البنك وقال له: هل تعرف محكمة أو لد " بابلي "؟ ..
فأجاب جيري: نعم ياسيدي ..
- وهل تعرف مستر " لوري "؟ .. - انني اعرفه أكثر من محكمة " أولدبايلي ". - حسناً .. اذهب الي بواب المحكمة وأخبره انك تحمل هذه الرسالة إلي مستر(لوري" .. وعندما يسمح لك بالدخول أظهر نفسك لمستر " لوري " ثم انتظر حتي يطلبك ..
فأخذ " جيري " الخطاب وانحني للموظف ثم سارع في طريقه إلي محكمة أولد بايلي .. وعندما اقترب من المحكمة كان لزماً عليه ان يفتش لنفسه عن طريق وسط جموع الرعاع الذين تجمعوا حول المحكمة لمشاهدة المحاكمة التي ستعرض والتمتُع بالنظر الي المتهم .. وكانت جميع أبواب المحكمة مغلقة. وعندما أبرز جيري الخطاب فُتح أحد الابواب وسمح له بالدخول ..
وفي قاعة المحكمة سأل جيري رجلاً قريباً منه: وما هي القضية القادمة؟.
- قضية تشارلز دار ناري المتهم بمعاونة أعداء الملك.
وشاهد كرانشر بواب المحكمة وهو يحمل الرسالة إلي مستر لوري .. وكان جالساً بين المحامين حول منضدة بقاعة المحكمة ..
وكان مستر سترايفر أحد هؤلاء المحامين قد حضر للدفاع عن دارني وأمامه كثير من الأوراق .. وفي الجهة المقابلة تقريباً كانهناك رجل وقور يوجه كل اهتمامه إلي السقف .. فلما وقع بصر مستر لوري علي كرانشر أومأ اليه برأسه ايماءة صغيرة.
ودخل القاضي فانقطعت كل المناقشات. ثم ادخل المتهم فحاول الجميع مشاهدته إلا شخصاً واحداً يدل مظهره علي اسرافه في اهمال ثيابه. ذلك الرجل هو الذي كان ينظر الي السقف .. وكان اسمه سيدني كارتون ..
كان المتهم شاباً في حوالي الخامسة والعشرين .. يبدو عليه انه رجل مهذب وهادئ جداً.وقد انحني للقاضي في أدب.
وخيم السكون علي قاعة المحكمة .. وكان تشارلز دارني قد أعلن في اليوم السابق انه برئ.
كان متهما انه جاسوس يساعد لويس ملك فرنسا في حروبه ضد ملك انجلترا وبأنه يسافر بين انجلترا وفرنسا لاطلاع الفرنسيين علي أخبار القوات التي كان ملك انجلترا يعد العدة لارسالها إلي كندا وشمال أميركا.
وبينما المتهم يستمع الي هذه التهم بهدوء وسكينة .. نظر الي قاعة المحكمة فشاهد شخصين علي يساره .. ولم يكد بصره يقع عليهما حتي تغير مظهره ولفت أنظار جميع من كانوا في المحكمة فوجهوا اهتمامهم اليهما.
كانا سيدة شابة جاوزت العشرين بقليل ورجلاً ناصع بياض الشعر يبدو بجلاء انه والدها .. وكانت الابنة - لوسي - تضع أحد ذراعيها تحت ذراع الرجل المسن .. كما كانت تنظر إلي المتهم باشفاق .. وقد علم جيري من المتجمعين حوله أنهما من شهود الاثبات.
ونهض المدعي العام وافتتح المحاكمة من جانب الحكومة قائلاً:
- لقد تعود هذا السجين السفر بين انجلترا وفرنسا في بعض المهام .. ولم تكن هذه المهام قد اكتشفت .. ولكن أميناً يدعي " جون بارساد " كان في يوم من الأيام صديقاً للسجين وجد هو و " روجر كلاي " خادم السجين أوراقاً في جيب السجين وفي حجرته .. تتضمن قوائم بالقوات الانجليزية ومواقعها .. ولا يمكن إثبات ان هذه القوائم قد كتبت بخط السجين .. ولكن هذا يدل علي انه رجل بارع وداهية .. إذ استطاع بهذه الطريقة أن يتستر علي جرائمه.
وبعد ذلك أدلي جون بارساد بشهادته وهي تؤكد صحة هذه الوقائع .. ثم وقف مستر سترايفر محامي تشارلز ليستجوب الشاهد:
- هل كنت في يوم من الأيام جاسوساً؟. - بالتأكيد لا. - ألم تسجن أبداً؟ - كلا .. - ولا في سجن المدنيين؟. - انني لا أري أية علاقة بين هذا وبين القضية. - هيا. أجب. ولا في سجن المدنيين؟. - نعم. - كم مرة؟. - مرتين أو ثلاث. - ألم تتهم مرة بالغش؟ .. - حدث هذا مرة واحدة أثناء لعب الورق .. لقد قالوا هذا ولكنهم كانوا سكاري .. - هل أنت متأكد من انك تعرف السجين جيداً؟. - نعم .. - هل تتوقع ان تكافأ علي الادلاء بشهادتك؟. - بالتأكيد لا.
ثم جاء دور روجر كلاي فقال انه شاهد كثيراً بعض القوائم عندما كان يقوم باعداد ملابس السجين .. وانه وجد القوائم التي بين يدي المحكمة في حجرة السجين ورأي السجين يطلع أحد الفرنسيين عليها في " كاليه " .. وعندما استجوب مستر سترايفر الشاهد اعترف بأنه كان يوماً ما لصاً.
وبعد ذلك جاء دور مستر لوري .. فسئل عما اذا كان قد رأي السجين من قبل.. فأجاب بأنه شاهده وهو يصعد فوق ظهر الباخرة في كاليه. - ومتي صعد الي ظهرها؟. - بعد منتصف الليل .. - هل كان معك أحد يا مستر لوري؟. - نعم .. اثنان. رجل وسيدة، وهما هنا .. مس مانيت ..
وهنا نهضت الفتاة التي توجهت اليها جميع الانظار من قبل.
- مس مانيت .. انظري إلي السجين.
لقد كان من الصعب علي تشارلز دارني أن يواجه هذه الجموع في قاعة المحكمة ولكنه
حتي هذه اللحظة استطاع أن يحتفظ بهدوئه وسكونه .. ولكن عندما ووجه بشباب لوسي مانيت وجمالها وشفقتها .. ارتجفت شفتاه ..
- مس مانيت. هل رأيت المتهم من قبل؟. - نعم يا سيدي .. - أين؟. - علي ظهر الباخرة التي ذكرت الآن. - وهل تحدثت اليه؟. - عندما صعد الي ظهر الباخرة لاحظ ان والدي كان متعباً جداً وان صحته ضعيفة للغاية .. فعاونني بشفقة علي حمايته من الرياح وبرودة الجو .. - وهل صعد منفرداً؟. - كلا. - كم عدد الذين صعدوا معه؟ .. - سيدان فرنسيان .. - وهل سلم اليهما أوراقاً تشبه هذه القوائم؟ .. - لقد سلم اليهما أوراقاً .. ولكنني لا أعرف أية أوراق هي. - واذا قال لك السجين؟ .. - لقد كان كريماً ونبيلاً .. فقد أعان والدي.
وهنا انفجرت الشاهدة باكية وهي تقول:
أرجو ألا اكون قد كافأته علي ذلك بالحاق الضرر به اليوم!..
- الكل يعلم يامس مانيت انك قد اتيت إلي قاعة المحكمة مضطرة لأن هذا واجبك .. فأرجوك الاستمرار. - لقد أخبرني انه مسافر لانجاز مهمة دقيقة .. وهو لذلك يستعمل اسماً مستعاراً كما قال انه قد يضطر إلي السفر كثيراً في المستقبل بين فرنسا وانجلترا .. - هل قال شيئاً عن أمريكا؟. - حاول ان يشرح لي كيف بدأت هذه الحرب .. وهو يعتقد أن انجلترا هي المخطئة .. ثم اضاف في سخرية ان جورج واشنطن قد يسجل له التاريخ شهرة كشهرة جورج الثالث ..
فرفع القاضي بصره مندهشاً لهذه الكلمات .. ولاحظ جميع الحاضرين بالقاعة الاضطراب الذي اعتري الشاهدة وهي تدلي بعبارتها الأخيرة.
ثم استدعي الدكتور مانيت وسئل عما اذا كان قد شاهد السجين من قبل، فأجاب: مرة عندما جاء لزيارتي في لندن.
- هل سافر معك في الباخرة؟. - لا أستطيع الإجابة .. - هل هناك أي ظروف خاصة تمنعك من الإجابة. - نعم .. - هل هو حظك السيء الذي جعلك تقاسي سجناً طويلاً بلا محاكمة أو اتهام من بلادكم؟ .. - سجناً طويلاً ! .. - هل كنت في ذلك الوقت حديث الخروج من السجن؟. - انهم يقولون هذا. - ولكنك لا تذكر شيئاً؟. - لا أذكر شيئاً منذ الوقت الذي بدأت فيه اصنع الأحذية حتي وجدت نفسي في لندن مع ابنتي العزيزة؟.
وبعد ذلك نودي أحد الشهود الذي قال انه شاهد السجين في فندق باحدي القري. حيث توجد(ترسانة) ومعسكر للجنود. وقد حاول المحامون اثبات انه ذهب الي هناك للحصول علي معلومات قيمة.
ويبدو ان سيدني كارتون لم يكن حتي هذه اللحظة يعير الأمر أي اهتمام، فقد كان قابعاً في مكانه ينظر إلي السقف وهنا كتب بضع كلمات علي وريقة صغيرة قذف بها إلي مستر سترايفر. الذي ما كاد يقرأها حتي وجه حديثه للشاهد قائلاً:
- هل انت واثق ان الذي شاهدته هو السجين؟. - كل ثقة. - ألم تشاهد احداً يشبه السجين؟. - ليس الشبه الدقيق الذي يدعو إلي الخطأ بينهما.
فقال مستر سترايفر مشيراً إلي الرجل الذي قذف اليه الوريقة:
- أنظر جيداً الي هذا السيد.. صديقي الاستاذ الجالس هناك.. هل تظن انه يشبه السجين؟.
ومع ان صديقه الاستاذ كان خشن ! مضطرب الهندام يرتدي ثياب المحامين، الا ان جميع من كانوا في القاعة عجبوا لهذا الشبه الكبير.
- إذا كان من المحتمل ان يظهر في قاعة المحكمة بطريق المصادفة شبيه السجين فمن المحتمل ايضاً ان يظهر شبيه آخر بطريق المصادفة أيضاً في هذا الفندق.
وبهذا لم تعد شهادة هذا الشاهد ذات قيمة.
ولم يبق هناك شهود آخرون لتسمع شهادتهم
فأبدي القاضي ملاحظاته ثم انصرف المحلفون الاثني عشر إلي غرفتهم لاتخاذ قرارهم ..
ويبدو ان مستر كارتون قد لاحظ اشياء اكثر مما كان يبدو انه لاحظه لأنه عندما اغمي علي مس مانيت كان هو اول من رفع صوته صارخاً:
- يا سيدي الضابط ساعد السيد في اخراج السيدة الصغيرة الي خارج القاعة الا تري ظنها ستقع علي الأرض؟.
ويظهر ان السجين قد تأثر كثيراً للمتاعب التي سببها لمس مانيت. فقد طلب الي مستر كارتون ان يبلغها اسفه علي أنه كان مصدر شقائها.
واختفي المحلفون ساعة ونصف ساعة تام خلالها جيري كرانشر .. وعندما استيقظ علي اصوات عودتهم أسرع مستر لوري الذي اعطاه قطعة من الورق كتب عليها بحروف رديئة: " برئ "!
تقابل تشارلز دارني خارج المحكمة مع أصدقائه الدكتور مانيت ولوسي مانيت ومستر لوري سترايفر محاميه الذي ترافع عنه ومستر كارتون مساعد سترايفر.
كان من الصعوبة التعرف علي شخصية صانع الأحذية بباريس. فقد بدا علي الدكتور مانيت أنه تخلص نهائياً من محنته القاسية. فكان وجهه يطفح بالبشر والسرور .. وهو واقف منتصب القامة قوي الجسم صحيح البدن تخيم عليه أحياناً سحابة سوداء عندما تمر بخاطره ذكريات السجن .. وفي هذه الحالات كانت ابنته الحبيبة لوسي هي الوحيدة التي تستطيع ابعاد هذه السحابة السوداء ..
قبل دارني يد الآنسة مانيت باحترام ثم شكر سترايفر الذي قال:
- يسرني أنني استطعت انقاذ حياتك وسمعتك .. كانت تهمة دنيئة ولكنها خطرة ..
وقال دارني معقباً:
- انك انقذت حياتي .. ولن أنسي ذلك ..
قال مستر لوري؟
- والآن .. لقد قضينا جميعاً يوماً شاقاً .. والآنسة لوسي يبدو عليها التعب .. ومستر دارني اجتاز محنة مخيفة. ونحن جميعاً مجهدون فهيّا إلي بيوتنا لننام ..
وعقب مستر سترايفر:
- انك تتحدث عن نفسك .. فما زال أمامي أعمال المساء تنتظر .. حملق الدكتور في
دارني طويلاً وقد علت وجهه نظرة حزن وخوف ..
فقالت لوسي وهي تضع يدها علي يد ابيها: أبي .. ألا تمض بنا ..؟
فتنهد طويلاً قبل أن يجيب: نعم.
واستدعيت عربة نقلت الأب وابنته وانصرف سترايفر يتبعه مستر لوري. ولم يبق إلا دارني ومستر كارتون ..
قال كارتون: يبدو عليك التعب والخور يامستر دارني.
فقال دارني: اني أحس هذا وأشعر به ..
- اذن فهيا نحتسي بعض النبيذ .. اني أعرف حانة تبيع نوعاً جيداً ..
وسرعان ما جلس الرجلان متقابلين حول احدي الموائد. وسأل كارتون؟
- هل تشعر بأنك اصبحت تنتمي إلي العالم من جديد؟ - نعم .. اني ما زلت مضطرباً ولكنني اشعر كما تقول:
فملأ كارتون قدحاً من النبيذ ثم افرغه في جوفه وهو يقول:
- لا شكان هذا سيرضيك .. أما عن نفسي فان رغبتي الملحة هي أن أنسي أني انتمي إلي هذا العالم لأنه لا يضمر لي خيراً .. واعتقد انني لست ذو فائدة له ..
ولم يعرف تشارلز دارني كيف يعقب علي قول رفيقة .. فاستطرد كارتون:
- ان الآنسة مانيت علي قدر كبير من الجمال والشباب يا صديقي ولست أدري كيف يكون شعور الانسان عندما تشفق عليه سيدة شابة وتبكي من أجله لقد رأيتها بنفسي تتألم وتبكي من أجلك ..
ومرة أخري لم يجب دارني ولكنه شكره لمعاونته اثناء المحاكمة.
فقال كارتون: لا أريد شكرك ولست في حاجة اليه. اسمح لي يا مستر دارني بأن أوجه اليك سؤالاً. هل تعتقد انني أحبك ..؟
- في الواقع انني لم أفكر في هذا يا مستر كارتون. - حسناً .. تستطيع أن تفكر فيه الآن. - لقد تصرفت كما لو كنت تحبني .. ولكنني لا اعتقد ذلك .. - وأنا بدوري لا اعتقد انني أحبك. - حسناً .. ليس هناك ما يمنع من ان ننصرف كأصدقاء .. اسمح لي بدفع الحساب .. - علي رسلك. وهل تريد أن تدفع حسابنا معاً ..؟ - أجل .. - اذن احضر لي نبيذاً آخر ايها الساقي. ولا تنس ان تحضر لإيقاظي في تمام الساعة العاشرة.
وبعد أن دفع دارني الحساب حيي كارتون تحية المساء وانصرف .. ونهض هذا بعد أن ألقي نفسه وحيداً ووقف أمام المرآة المعلقة علي الجدار وراح يمعن النظر في صورته. وجد انه قوي راجح العقل طيب القلب .. ولكن هذه القوة لم تستعمل قط علي خير وجه .. لقد كان ناقماً علي دارني .. لأنه يشبهه شكلاً. ولكنه يفوقه في كثير من النواحي الأخرى .. ثم هناك لوسي .. أن مجرد التفكير في لوسي يملأ قلبه حقداً وكراهية للرجل الآخر.
وعاود احتساء النبيذ ثم طرح رأسه فوق ذراعيه واستسلم للنوم ..
وبعد بضع ساعات أيقظه الخادم .. فجر نفسه جراً إلي غرفة سترايفر ليعاونه في اعداد قضايا اليوم التالي ..
كان سيدني كارتون يقوم بالعمل .. بينما تمدد مستر سترايفر علي وسادة وراح يرقبه ..
لقد عرف كل منهما كيف يعامل زجاجة النبيذ ..
كانت تلك الأيام تدفع جميع الرجال تقريباً إلي الامعان في احتساء النبيذ .. وبعد أن أعد كارتون الأوراق عرضها علي سترايفر ثم راحا يناقشان القضايا معاً. واحتسيا مزيداً من النبيذ.
قال سترايفر:
- وأخيراً انتهينا من عملنا يا سيدني لقد أعددت قضية اليوم بكل دقة وعناية لقد كنت موفقاً .. وترك كل سؤال أثره الفعال وهزمت أولئك الشهود تماماً ..
قال كارتون:
- اني محظوظ دائماً. أليس كذلك؟ - لا انكر ذلك ولكن ما سبب الخشونة التي طرأت علي طباعك ..؟ انك لم تتغير قط .. فأنت سيدني كارتون القديم الذي كان يزاملني في المدرسة. فتقلب بين الارتفاع والسمو وبين اليأس والحضيض. - أجل .. نفس الشخص ونفس الحظ السئ .. حتى في أيام الدراسة. لقد كنت أؤدي للتلاميذ واجباتهم ولا اؤدي واجبي لنفسي .. - كانت غلطتك دائماً لأن جهودك يعوزها الحافز والهدف القوي .. هل تستطيع أن تخبرني لماذا أنجح أنا دائماً بينماتفشل أنت ..؟ - ذلك لأني أعاونك نظير الأجر الذي تنقدني اياه. ولكنك دائماً في المقدمة بينما اقبع دائماً في المؤخرة .. - هذا صحيح .. وقد وضع كل منا في المكان المناسب .. - حتى عندما كنا ندرس في باريس كان أحدنا في واد والثاني في واد آخر .. - وغلطة من كانت ..؟ - دعنا من الحديث في هذا .. - حسناً .. دعنا نشرب قدح النبيذ الأخير في صحة الشاهدة الحسناء - انها ليست حسناء - بل هي حسناء .. وقد اثارت اعجاب جميع من كانوا في قاعة المحكمة. - ليست هذه المحكمة اخصائية في تقدير الجمال والحسن .. - انك تحيرني .. كنت اعتقد انك معجب جداً بالشابة، وخاصة عندما أسرعت اليها لتعرف ما وقع لها .. - لقد رأي كل انسان ما وقع لها .. وعلي العموم فأنا لست في حاجة إلي نبيذ آخر .. سأذهب إلي فراشي.
وغادر المنزل متخذاً طريقه خلال تلك الشوارع المظلمة الحزينة ثم صعد إلي غرفة عالية بأحد المنازل وقذف بنفسه فوق فراش مضطرب مهمل .. حيث الوسائد التي تعود أن يرويها بدموعه !
هذا رجل طيب كريم يتمتع بقدر كبير من الذكاء والنبوغ ومع هذا لم يكن في مقدوره أن يفيد نفسه أو يجد لها الطمأنينة والعزاء ..
بعد ظهر أحد ايام الأحد وبعد أربعة أشهر من محاكمة تشارلز دارني كان مستر جارفيس لوري يسير في الشوارع التي تغمرها الشمس في طريقه إلي منزل صديقة الدكتور مانيت ليتناول معه طعام الغداء. وكان الدكتور مانيت يشغل طابقين في منزل بأحد أحياء لندن الهادئة حيث يستقبل المرضي الذين يترددون عليه لاستشارته طبياً، وكان يجني من وراء ذلك كل ما يحتاج اليه من مال ..
وقرع مستر لوري جرس الباب مستفسراً: هل الدكتور مانيت موجود؟