جورجي زيدان

"العباسة أخت الرشيد"

أبطال

الرواية

هارون الرشيد: الخليفة العباسي.

جعفر البرمكي: وزير الرشيد.

العباسة: أخت الرشيد.

زبيدة: زوجة الرشيد.

أبو العتاهية: شاعر الرشيد.

الأمين: ابن هارون الرشيد.

عتبة: جارية العباسة.

الفضل بن الربيع: وزير الأمين.

مسرور الفرغاني: الجلاد.

مراجع هذه

الرواية

هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها

التاريخية:

تاريخ الطبري - الفخري - ابن الأثير - أبو الفداء -

المسعودي.

كتاب الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني.

تاريخ ابن خلكان.

العقد الفريد.

إعلام الناس، للإتليدي.

مروج الذهب للمسعودي.

فوات الوفيات.

نفح الطيب.

ديوان أبي نواس.

سراج الملوك.

الفرج بعد الشدة.

الفصل الأول

مدينة

بغداد

كانت عاصمة الإسلام في أيام الراشدين يثرب(المدينة) تبركًا بقبر النبي

ﷺ، فجعلها

بنو أمية في دمشق مقر أحزابهم من قبائل العرب. فلما أفضتِ الخلافة إلى بني

العباس، وقد ساعدهم عليها مواليهم الفرس، جعلوا عاصمة ملكهم على حدود بلاد

الفرس. وكانوا أولًا في الكوفة؛ إذ بايعهم أهلها، ثم انتقلوا إلى الأنبار

على الفرات، وفيها توفي السفاح؛ أول الخلفاء العباسيين، وخلَفه المنصور.

وأول شيء قام به قتْلُ أبي مسلم خوفًا منه على منصبه. فقتَله غيلة كما تقدم في

رواية "أبي مسلم الخراساني"، فأصبح المنصور بعد قتْله يخشى على نفسه من

أصحاب أبي مسلم وأشياعه، وخاصة بعد أن ثار عليه منهم جماعة الراوندية،

وكادوا يفتكون به لو لم يدافع عنه معن بن زائدة. وقد فتك رجال المنصور

بالراوندية وقتلوهم، لكنه ظل خائفًا من مثل هذه الثورة، فعمد إلى بناء حصن

يأوي إليه بأهله ورجال حكومته، فبنى بغداد بشكل مستدير سُمِّي مدينة المنصور،

وجعل قصره في منتصفها وسمَّاه قصر الذهب، وجعل قصور الأمراء ورجال الدولة

وأبنية مصالح الدولة حوله، وبينها الأسواق للبيع والشراء، وبنى حول المدينة

سورًا في ثلاثة أسوار الواحد داخل الآخر: الأول أو الداخلي يحيط بالأبنية،

ووراءه فراغ فيه أبنية كالقلاع ونحوها، ووراء الأبنية سور ثانٍ متين وراءه

فراغ للمرور حوله، ووراء هذا الفراغ سور ثالث، ووراء هذا السور خندق فيه

الماء، وجعل للمدينة أربعة أبواب سمَّاها بأسماء المدن التي تتجه نحوها؛ وهي

أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وافتتح فيها أربعة شوارع كبرى

تمتد من الأبواب إلى مركز المدينة.

وكان المنصور يقيم أولًا في قصر الذهب في منتصف مدينته، ثم اطمأن باله

وازدحمت المدينة، فشيد قصرًا خارج المدينة على شاطئ دجلة سمَّاه قصر الخلد.

وظلَّ القصران مقر الخلفاء بعد المنصور إلى أيام الرشيد. وكان الرشيد يفضِّل

الإقامة في قصر الخلد وأكثر إقامته فيه.

على أن مدينة المنصور لم تكن وحدها كافية لإقامة الجند ومن يلحق بهم من

الباعة والأهل وغيرهم، ناهيك بمن تقاطر إلى تلك العاصمة من المسلمين وغير

المسلمين، فابتنوا المنازل خارج المدينة، ورأى المنصور أن يقلل الازدحام،

فرغب الناس في السكنى على البر الشرقي في مكان سمي الرصافة، وأنشأ فيه

مسجدًا وقصرًا، فابتنى الناس حولهما المنازل. واتفق أن ابنه المهدي جاء بجيشه

من خراسان فنزلوا في الرصافة؛ لأنها آخر طريقهم برًّا من خراسان، فأمرهم

المنصور أن يبقوا هناك، وأقطعهم القطائع، فبنوا المنازل، وأصبحت الرصافة

بلدًا كبيرًا. وكانت في بادئ الأمر معسكرًا يُعرف بمعسكر المهدي، ثم امتدت

جنوبًا وشمالًا فتولدت أحياء المخرم والشماسية. وأقام الخلفاء الدور على ضفاف

دجلة شرقًا وغربًا. يهمنا منها في هذا المقام قصر الخلد، وقصر زبيدة، وكلاهما

على الضفة الغربية، وقصر جعفر البرمكي، ووراءه قصر الأمين على الضفة

الشرقية.

ونشأت حول مدينة المنصور أحياء أخرى على الجانب الغربي، أهمها الكرخ،

وفيه كان يقيم التجار من الأجانب وخاصة الفرس، وحي الحربية في الشمال،

وأكثر سكانه من العرب، فكانت بغداد في أيام الرشيد قسمين: قسمًا شرقيًّا،

وقسمًا غربيًّا، بينهما ثلاثة جسور أهمها الأوسط، ويعرف بالجسر أو جسر بغداد،

وهو يوصل بين مدينة المنصور والرصافة رأسًا. وكان في بغداد على عهد الرشيد

وما بعده أنهارٌ تنبع من دجلة والفرات وتخترق أحياء المدينة. وقد بنى الناس

قصورهم على ضفافها أو فيما بينها، أشهرها: نهر عيسى، ونهر طابق، ونهر

الدجاج، ونهر البزازين، ونهر الصراة، ونهر جعفر، وغيرها.

وكانت بغداد في أيام الرشيد آهلة بالقصور والحدائق، وأهلها في رغد

ورخاء، والأموال تنصب في خزائنها بالملايين، والخليفة يهب ويجيز، والناس

يتقاطرون إلى بغداد التماسًا للتكسب بما يرضي الخليفة أو رجاله من أسباب

الارتزاق، وفيهم العربي، والفارسي، والرومي، والتركي، والكردي، والأرمني،

والكرجي، والسندي، والهندي، والصيني، والزنجي، والحبشي ... على اختلاف

الأجناس، بين صانع، وتاجر، ونخَّاس، وشاعر، ومغنٍّ، وأديب، ونحوي، وراو ... وفيهم

المسلم، والذمي، والحر، والمولى، والعبد، والغلام، والجارية. وكلهم يحومون

حول دار الخلافة أو دُور الأمراء يبيعونهم السلع، أو يتملَّقونهم بالمديح، أو

يدسُّون إليهم أسباب الزُّلفى استنزافًا للأموال. وهؤلاء يبذلون الأموال بسخاء،

يأنفون أن تعدَّ عطاياهم بمئات الدراهم، وإنما يعدونها بالألوف وألوف الألوف.

وكيف يقدرون قيمة المال وهو ينصب في خزائنهم انصباب السيل ... إذ كانوا

يشاطرون أهل الأرض غلَّاتهم فضلًا عن الجزية والغنيمة، فإذا صار ذلك إلى

الخليفة وأمرائه استكثروه فأنفقوه على مَن يحوم حولهم من المقربين.

الفصل الثاني

أبو

العتاهية

وكان في جملة المرتزقين بالشعر على أبواب الخلفاء أبو العتاهية، وأصله

من الموالي مثل أكثر شعراء ذلك العصر.

وكان أبو العتاهية في أول أمره يصنع الجرار، ويحملها في قفص على ظهره،

ويتجول في الكوفة ليبيعها، وكان ذا قريحة شعرية فنزل بغداد، وما لبث أن

ارتقى بشعره إلى مجالسة الخلفاء. وأول من قرَّبه منهم المهدي بن المنصور، وقد

فُتن به وبشعره حتى كان المهدي يصحبه في الصيد أو النزهة ويُكرمه ويُجيزه.

وكان ذلك شأنه مع الهادي بن المهدي، ولم تطل مدة حكم الهادي، ولكنها على

قِصرها أثَّرت في قلب أبي العتاهية، فلما مات الهادي عاهد أبو العتاهية نفسه

ألا يقول شعرًا بعده.

فلما تولى هارون الرشيد طلب إليه أن يقول شعرًا فأبى، فغضب عليه، وأمر

بحبسه في مكان مساحته خمسة أشبار في خمسة، فاستعطفه وقال شعرًا غنَّى به

الموصلي؛ المغني المشهور، فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم، وأصبحت له عند

الرشيد منزلة كبيرة، حتى كان لا يفارقه في حَضَر ولا سَفَر إلا في طريق الحج،

وعين له الرشيد راتبًا سنويًّا غير الجوائز، وغير ما كان يناله من رجال الدولة

وجوائزهم يومئذٍ بألوف الدراهم، فجمع مالًا كثيرًا، لكنه كان مع ذلك طمَّاعًا

شديد البخل يجمع المال ولا ينفقه، ولا يدخر وسعًا في حشده بأية طريقة كانت،

وخاصة بعد أن نذر الزهد وعاهد نفسه ألا ينظم شعرًا، فقلَّ تكسُّبه من الشعر،

فأخذ يغتنم الفرص للاكتساب من أبواب أخرى.

وكان أبو العتاهية في خلافة الرشيد حوالي سنة ١٧٨ﻫ يحضر مجلس محمد

الأمين بن الرشيد، وهو يومئذ في السابعة عشرة من عمره. وكان الأمين ميالًا

إلى القصف واللهو منذ نعومة أظفاره لا يخلو مجلسه من المغنين، وأهل

الخلاعة، والجواري، والغلمان، وهو أول من استكثر من الغلمان والخدم، وتفنن

في انتقائهم وتزيينهم. وكان يشهد مجلسه كثيرون من الشعراء، ولا سيما أهل

القصف والمجون منهم؛ كالحسن بن هانئ المُلقَّب بأبي نواس. وكان أبو العتاهية

مقربًا من زبيدة أم الأمين، فكان يحضر مجلس الأمين لعله يصيب كسبًا أو جائزة

بسبيل من السبل. وكان الأمين كريمًا مسرفًا لا يعرف للمال قيمة.

وكان لا يشهد مجلس الأمير من أهل الجد والدهاء إلا من كان له غرض سياسي

لا يرى الوصول إليه إلا على يد الأمين، أو تقربًا به إلى أمه زبيدة، وهي أحب

نساء الرشيد إليه؛ لأنها ابنة عمه، ولها كلمة نافذة عليه.

وكان أكثر نساء الخليفة يومئذ من الجواري المعتقات؛ ولذلك لم يكن بين

العباسيين خليفة أمه وأبوه هاشميان إلا الأمين، فكان الذين يحبون التقرُّب من

الرشيد بالدالة أو الوساطة أو الدسائس يتزلفون إليها بالثناء على ابنها، مع

اعتقادهم أنه ليس أهلًا للخلافة، ويطعنون على أخيه المأمون؛ لأن أمه جارية

فارسية، ويحطون من قدره عندها ... وهو في الحقيقة أفضل من ابنها عقلًا

وأدبًا.

وكان أكثر الناس سعيًا في هذا السبيل الفضل بن الربيع؛ لأن أباه كان

وزيرًا للمنصور والمهدي، وكان هو يرشح نفسه للوزارة. فلما تولى الرشيد

الخلافة قرَّب يحيى بن خالد البرمكي، وفوض إلى ابنه جعفر بن يحيى الوزارة بكل

معانيها؛ لأن أباه يحيى كان سببًا في توليه الخلافة، فشقَّ ذلك على الفضل بن

الربيع، وثارت في نفسه عوامل الحسد، ولم يدخر وسعًا في خلق الأسباب للإيقاع

به، ولم يجد سبيلًا إلى ذلك إلا بالتزلف إلى زبيدة وابنها؛ لعلمه أنها تكره

الفرس جملة والبرامكة خاصة، ولا سيما جعفر بن يحيى؛ لأنه حمل الرشيد على

مبايعة المأمون "ابن جاريتها" بولاية العهد بعد ابنها الأمين، فكانت تقرِّب

كل من ينصر ابنها ويطعن على المأمون؛ ولذلك كان الفضل يحضر مجلس الأمين في

لهوه، ويسايره في قصفه، ويتملقه للغرض الذي قدمناه.

فاتفق في مجلس حضره أبو العتاهية تلك السنة أن ذكر الأمين عزمه على

ابتياع بعض الجواري البيض ممن يُحسنَّ الغناء، يضمهن إلى اللواتي في قصره.

وأكثر المغنيات يومئذ من الجواري الصفر.

وكانوا يقتنون الجواري البيض للترفيه فقط. وأول من علم الجواري البيض

الغناء إبراهيم الموصلي مغني الرشيد، فأحب الأمين أن يتخذ مغنيات من البيض،

فأخبره الفضل بن الربيع أن كبير النخاسين أتى بعدد من الجواري الحسان

أنزلهن عند كبير من تجار الرقيق في بغداد، وهو يهودي واسمه فنحاس، وأن

الناس معجبون بجَمَالهن الفتَّان، فيمكنه ابتياع بعضهن، ويعهد إلى الموصلي أن

يعلمهن الغناء. وأخذ الفضل على نفسه أن يذهب في الغد إلى ذلك التاجر،

فينتقي له أحسنهن طلعة، وأطربهن صوتًا، فلما سمع أبو العتاهية ذلك، توقع منه

ربحًا كبيرًا بالتواطؤ مع فنحاس؛ لعلمه أن الأمين لا يهمه مقدار ما يدفعه من

المال في هذا السبيل.

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فرأى أن يذهب في تلك الليلة إلى فنحاس

يخبره بعزم الأمين، وأنه هو الذي حمله على ابتياع الجواري من عنده، ويغريه

على زيادة مبالغ كبيرة على الثمن الذي يقدره هو، على أن تكون تلك الزيادة

مقابل سعيه في ذلك.

الفصل الثالث

غريبان

فهرول أبو العتاهية من ساعته يتلمس دار ذلك التاجر، والمسافة بينهما

بعيدة؛ لأن قصر الأمين في جنوب المخرم في الجانب الشرقي من بغداد، ودار

فنحاس في أعالي الجانب الغربي، بقرب دار الرقيق التي أنشأها المنصور؛ لما

كان يبتاعه من الجواري والغلمان المجلوبين. وكان أبو العتاهية أبيض اللون،

أسود الشعر، نظيف الثياب، له هيئة حسنة. وقد عرف باللباقة والحصافة. وكان

تلك الليلة في ملبس بسيط غير ما تعوَّد لبسه في مجلس الخليفة أو ابنه أيام

كان ينظم الشعر، وكان منذ عاهد نفسه على الزهد يلبس ثياب الفقراء. ولعل

بخله حفزه إلى ذلك. وكان يلبس فوق ثيابه عباءة بسيطة، ويعتم بعمامة بسيطة

كأنه من عامة الناس، فالتف تلك الليلة بالعباءة وغيَّر شكل عمامته إخفاءً

لحقيقة أمره؛ لأنه ذاهب في شأن يحتاج إلى التستُّر.

فمشى على شاطئ دجلة وهو يتردد بين أن يصعد في إحدى السفن التي تسير في

دجلة حتى يصل إلى الجسر، وينزل من هناك ماشيًا إلى دار الرقيق، أو يجعل

طريقه كله برًّا. وكان يفضل الذهاب ماشيًا فرارًا من نفقة الانتقال بالسفينة،

أو على دابة من دواب الأجرة، فلما أطل على دجلة رأى بالقرب من الشاطئ شراعًا

منشورًا وسفينة تخترق عباب الماء على عجل، فاستبشر وعزم على الركوب بها.

وكان الليل قد أسدل ستاره وسكنت الطبيعة لبُعد ذلك المكان عن الشوارع

المزدحمة في الكرخ؛ لأن أكثر الأبنية القائمة على ضفاف دجلة من القصور

الشماء، والحدائق الغناء، للخليفة أو وزيره أو بعض أولاده أو أهله، فصاح

أبو العتاهية بالسفينة أن تقف فلم يُجدِ صياحه نفعًا، فأعاد النداء، فأجابه

ربانها بأنه لا يستطيع الوقوف، فأعاد الصياح قائلًا: "قف. ناشدتك

المروءة."

فسمع أبو العتاهية عند ذلك لغطًا، ورأى النوتية في حركة عند الشراع

فأرخوه بحيث تبطئ السفينة في سيرها، ورأى حركة المجاذيف فعلم أن أهلها في

عجلة لأمر ما، وليس لمجرد النزهة في مياه النهر على جاري عادة أهل بغداد.

ولم تكن الليلة مقمرة تشجع على النزهة. وبرز رجل حتى وقف على حافة السفينة

ونادى: "من أنت؟"

فقال أبو العتاهية: "إني غريب أمسى عليَّ المساء، وأحب الطلوع إلى

الحربية، ولا أعرف الطريق."

فلما سمع الربان قوله تحول عن حافة السفينة حتى توارى، والسفينة تتباطأ

في سيرها. ولبث أبو العتاهية في انتظاره، وبعد هنيهة عاد الربان وهو يقول:

"مرحبًا بك؛ تفضل." وأدنى السفينة من الشاطئ ثم أمر أحد النوتية فألقى خشبة

بينها وبين الشاطئ، مشى عليها أبو العتاهية حتى دخل السفينة، وحيَّا الربان

فرد التحية وأشار إليه أن يجلس على مقعد بجانب الشراع، فجلس وأجال نظره فلم

يجد هناك غير النوتية؛ وهم أربعة، يستعينون على سرعة المسير بالتجذيف.

وحانت منه التفاتة إلى مؤخر السفينة فرأى على نور القبس رجلًا وامرأة عليهما

ثياب أهل البادية، وقد جلسا وأحنيا رأسيهما من النعاس، وبجانب الرجل نعال

غليظة من نعال أهل الحجاز.

ورأى بين أيديهما غلامين قد توسدا ظهر السفينة، وجعلا رأسيهما على حجر

المرأة، كل واحد من ناحية، وعليهما ثياب أهل البادية، وقد غطتهما المرأة

بمطرف من الخز الموشَّى، فاستغرب ذلك ودفعه حب الاطلاع إلى معرفة خبرهما.

وكانت السفينة تخترق النهر والجو هادئ لا يُسمع فيه غير مسير السفينة تشق

عباب الماء، وأصوات المجاذيف تنقر سطحه بانتظام. وما لبثوا بعد برهة أن

أطلُّوا على أبنية بغداد وقد أُنيرت القصور على الضفتين، ثم سمعوا أصوات

المؤذنين يدعون الناس إلى صلاة العشاء، فوجد أبو العتاهية بذلك حيلةً

لمخاطبة الربان فقال: "أليس عندك طنفسة أُصلي عليها العِشاء؟"

فنهض الربان وجاءه بطنفسة فرشها على ظهر السفينة بالقرب من أولئك

الغرباء، فنهض أبو العتاهية وأخذ في الصلاة وعيناه لا تتحولان عن الغريبين

والغلامين وهو يتفرس الوجوه، فعلم أن الرجل والمرأة من أهل الحجاز، وهما

كهلان، وخشونة البادية ظاهرة في ملبسهما. أما الغلامان فكان نور القبس قد

وقع على وجهيهما، فعرف أبو العتاهية من خلال خفقان نور القبس أنهما أخوان؛

أحدهما في الخامسة من العمر، والآخر في نحو الرابعة، وفي وجهيهما جمال أهل

المدن بلون أبيض مُشرب بحمرة، ولهما عيون طويلة الأهداب كأنها مكحولة

بالأثمد، وقد زادهما دفء الغطاء إشراقًا وحُمرة وهما مستغرقان في النوم،

ورآهما أصغر سنًّا من أن يكونا ابنَيْ هذين البدويين، فازداد رغبة في معرفة

الحقيقة عنهما. وما إن فرغ من الصلاة حتى اقترب من الربان وسأله قائلًا: "لم

أعرف رفاقنا الليلة، فهل هم غرباء مثلي؟"

فقال: "نعم."

قال أبو العتاهية: "من أين أتوا؟"

فقال الربان: "مالك ولهذا السؤال؟"

قال: "لأن الغرباء أنسباء."

فضحك الربان ضحكة مصطنعة وقال: "لا يهمك الاطلاع على أخبار الناس، دع

عنك الفضول؛ فإني لم أسألك من أين أتيت، أو إلى أين أنت ذاهب، ولا ما هو

اسمك ونسبك." قال ذلك وتركه وتحول إلى حافة السفينة. وكانت السفينة قد

تجاوزت الجسر السفلي. وكان مفتوحًا، وفتحه سهل؛ لأنه مؤلَّف من السفن السابحة

متصلة بعضها ببعض بالسلاسل، وفوقها ألواح من الخشب لمرور الناس والدواب.

وبعد أن تجاوزت السفينة الجسر أطلَّتْ على مدينة المنصور، واقتربت من الجسر

الأوسط. ويندر أن يكون مفتوحًا، فقال الربان: "قد اقتربنا من الجسر، وهذا

آخر شوطنا؛ فتفضَّل وانزل."

وكان أبو العتاهية قد استاء من خشونة الربان، وهمَّ بأن يُطلعه على حقيقة

حاله؛ لأنه لو عرفه لاحترمه؛ وذلك لما كان للشعراء من النفوذ في دولة

الخلفاء، ولكنه فضَّل الكتمان. ولما سمعه يناديه وقف وأسرع إلى حافة السفينة،

فإذا هو بقرب قصر الخلد؛ حيث يقيم الرشيد، وقد أُضِيء القصر بالشموع الملونة،

وانبعثت الأنوار من النوافذ على أزهار الحديقة، وتضوَّعت الروائح الزكية،

فاختلطت رائحة البخور والطيب بشذا الأزهار والرياحين. وتذكر أبو العتاهية

المهمة التي هو ذاهب إليها وما يتوقعه من وراء نجاحها من الكسب المالي،

فأغضَى عما كان يبعثه عليه حب الاستطلاع وقال للربَّان وهو يضحك: "هل ننزل في

قصر أمير المؤمنين؟"

قال: "سنُنزلك وراءه بالقرب من الجسر."

قال: "حسنًا." وعاد إلى التفكير في تدبير ما ينبغي أن يقوله لفنحاس؛ صاحب

دار الرقيق، إذا لقيه، وأخذ يعدُّ نفسه للمسير على قدميه المسافة الباقية -

وما هي بقليلة - وودَّ لو أن هذا الجسر مفتوح مثل الجسر السفلي ليُتمَّ سفره

بالسفينة، فأصلح عمامته، وشدَّ منطقته فوق القباء، وتزمل بالعباءة، حتى إذا

دنت السفينة من الشاطئ الغربي ألقوا له خشبة يعبر عليها، وهو يثني على

الربَّان لحُسن وفادته، وذهنه لا يزال عالقًا بما شاهده هناك. ولكن سروره بما

كان يأمل فيه من الكسب أنساه كل شيء.

الفصل الرابع

عتبة

فلما وطئ الشاطئ سار مهرولًا نحو الشمال حتى قطع شارع باب خراسان، ودخل

في شارع دار الرقيق، فرأى الحوانيت قد أُغْلِق معظمها، والأزقة لا تزال مزدحمة

بعابري السبيل، فحدثته نفسه أن يكتري حمارًا يركبه، ولكن غلب عليه البخل فظل

ماشيًا وهو يطيل خطواته حتى أقبل على دار فنحاس، وهي قصر كبير؛ لأن الرجل

كان من أهل اليسار والثروة بما كان يكتسبه من تجارة الرقيق، وكان أكثر بيعه

للخلفاء أو لأولادهم، فإذا وقف على جارية جميلة أو غلام جميل أنفذ بعض

السماسرة إلى دار الخليفة أو الأمير أو غيرهما يسعون في ترويج تلك السلع.

وكثيرًا ما يكون الوسيط بالسمسرة بعض المقربين من بطانة الخليفة، أو ولي

العهد ممن يحبون الكسب من هذا السبيل، وخاصة الشعراء والمغنين. ولم تكن هذه

أول مرة اكتسب أبو العتاهية فيها مالًا بالسمسرة.

فلما أطل أبو العتاهية على قصر فنحاس انتبه لنفسه وقد مضى هزيع من

الليل، فخشي أن يكون الرجل قد ذهب إلى الفراش؛ لأنه قلما يطيل السهر؛ إذ لم

يكن مغرمًا بالسماع أو مجالس الشراب، وإنما همُّه أن يروِّج سلعته بين أهل

اللهو، ويسرُّه أن يبالغوا في الترف والقصف لتزداد أرباحه، فكانت عادته أن

يتناول عشاءه عند الغروب، فإذا حان وقت العشاء ذهب إلى فراشه.

وكان أبو العتاهية يعلم ذلك، ولكنه كان يأمل أن يكون فنحاس ساهرًا تلك

الليلة، فلما أطل على القصر رأى فيه الأنوار على غير المعتاد فانشرح صدره،

وعدَّ ذلك من أسباب توفيقه، فتحول من شارع دار الرقيق نحو اليسار في طريق

يؤدي إلى القصر، فلما دخل الزقاق المؤدي إلى بابه رأى عند الباب أشباحًا،

وسمع عن بُعدٍ لغطًا، فأصاخ وتفرَّس فرأى دابتين ترجَّل عنهما شخصان معهما غلامان،

فدهش لما علم أنهم الرفاق الذين شاهدهم في السفينة، وتبادر إلى ذهنه حينئذ

أن الغلامين من الرقيق جيء بهما للبيع، ولكن الرجل لم يكن يبدو أنه من

النخَّاسين أو التجار، وإنما كان مظهره يوحي بأنه من البدو.

فتباطأ أبو العتاهية وانزوى في مستترٍ بحيث يرى ويسمع ولا يعلم به أحد،

فرأى الرجل الشيخ بعد أن ترجل عن البغلة وهو يحمل الغلام على كتفه، أمسك

بحلقة الباب ودقها دقًّا عنيفًا، ووقف ينتظر الجواب، فابتدرته المرأة قائلة:

"هل تظنهم في انتظارنا؟"

فأجابها الرجل: "لا بد من ذلك. ألا ترين الأنوار في القصر؟ لا بد أن

تكون مولاتنا في انتظارنا هنا على أحرِّ من الجمر؛ لأننا أبطأنا عليها."

فلما سمع أبو العتاهية كلامهما، لم يجد فيه لغة أهل مكة ولا المدينة، بل

هو أقرب إلى لغة أهل بغداد المُوَلَّدين، فزادت رغبته في معرفة سر هذا الأمر،

وما لبث أن رأى خوخة الباب قد فتحت وأطل منها رأس امرأة بيدها مصباح قد وقع

نوره على وجهها، وظهرت ملامحها ظهورًا تامًّا، فشاهد وجهًا مشرقًا، وعينين

سوداوين، وحاجبين مقوسين، ومبسمًا لطيفًا، وشعرًا قد ضفر ببساطة. وكان مظهرها

يدل على أنها من الجواري البيض، وأنها في نحو الأربعين من عمرها ولا يزال

الجمال ظاهرًا في عينيها. ولما وقع بصره عليها خفق قلبه؛ لأنه تذكَّر وجهًا

يعرفه ويحبه، وكان قد تعلَّق بصاحبته منذ بضع عشرة سنة، وقد مُنعت عنه وبقيت

لذلك حرقةٌ في قلبه، فأخذ يتفرس في المرأة ليتحقق من ظنه، فإذا هي تقول

بلهفة: "جئتُم؟ الحمد لله. لقد أبطأت علينا يا رياش."

قال: "لقد أبطأنا رغم إرادتنا. اسألي برة عما لاقيناه من الصعاب في

أثناء الطريق. ألم نذهب أولًا إلى سيدنا - أعزه الله - فأبقانا عنده إلى

المساء، فجئنا من عنده توًّا إلى هنا. هل مولاتنا هنا يا عتبة؟"

فلما سمع أبو العتاهية ذلك الاسم بعد أن سمع صوت الجارية بُغتَ وتزايدت

ضربات قلبه، وتحقق أنها الجارية التي كان يهواها في أيام المهدي، وقد أكثر

من تشبيبه بها وهو لا يجرؤ أن يطلبها منه، فاحتال في عيد النيروز فأهدى إلى

المهدي برنية فيها ثوب مطيَّب، وكتَب على حواشيه بيتين يشير إلى طلبها منه؛

وهما:

نفسي بشيء من الدنيا معلقة

الله والقائم المهدي يكفيها

إني لأيأس منها ثم يُطْمِعني

فيها احتقارك للدنيا وما فيها

فأدرك المهدي يومئذ غرضه، فهمَّ بدفع عتبة إليه، فجزعت الجارية وقالت: "هل

يرضيك يا أمير المؤمنين أن تدفعني إلى رجل بائع جرار ومتكسب بالشعر؟"

فأعفاها وقال: "املئوا له البرنية مالًا." وأوصاه أن يكفَّ عن التشبيب بها،

فكفَّ أبو العتاهية عن ذكرها، ولكن حبَّها ظلَّ في قلبه. ولما مات المهدي وتفرقت

جواريه لم يعلم أين كان مصيرها، فلما رآها في تلك الليلة هاجت في قلبه

حرارة الشباب، ولكن دهشته مما يراه شغلته عن تلك الذكرى.

الفصل الخامس

دار فنحاس

أما عتبة، فإنها عادت إلى الخوخة وأمرت البواب ففتح الباب، فدخل الرجل

"رياش" يحمل أحد الصبيين على كتفه، وقد ألقى الصبي رأسه على زنديه فوق رأس

الرجل، واستغرق في النوم وذؤابتا شعره مرسلتان على كتفيه فوق الدراعة،

وكذلك كان الصبي الآخر على كتف المرأة، وعتبة تسير بين أيديهما بالمصباح في

فناء الدار حتى تواروا عن بصر أبي العتاهية، ثم رأى البغلتين في الزقاق

عائدتين يسوقهما المكاري، فظل واقفًا وهو يفكر فيما رآه، وقد نسي المُهمة

الأصلية التي جاء من أجلها، وأصبح همُّه كشف ذلك السر، وخاصة بعد أن سمعهم

يتساءلون عن مولاتهم، فقال في نفسه: "مَن عسى أن تكون تلك المولاة؟! لعل في

الأمر سرًّا أكتسبُ من وراء كشفه مالًا!" فرأى أن يؤخر دخوله هنيهة لئلا يلحظ

أهل البيت أنه عرف شيئًا من أمر القادمين. فإذا دخل بعد ذلك احتال في كشف

السر، فانتظر حتى سمع صرير الباب ورآه يُغلق، ثم سمع صوت إغلاقه فتقدم نحوه

ودقَّه بالحلقة، فسمع رجلًا ينادي: "من؟"

فأعاد القرع ففتحت الخوخة، وأطل رجل من أنباط السواد اسمه حيان - كان

فنحاس قد جعله بوابًا - وكان يعرف أبا العتاهية وشاهده هناك غير مرة، فلما

رآه في تلك الساعة وقد توسط الليل استغرب مجيئه، لكنه رحَّب به وفتح له، فدخل

أبو العتاهية وهو يتظاهر بالتعب وقال: "هل مولاك في البيت يا حيان؟"

فقال بلهجة الأنباط وهم يلفظون الحاء هاء، والعين همزة، والقاف كافًا:

"نأم. هل تريد الدخول إليه؟"

أي "نعم. هل تريد الدخول عليه؟"

فقال وهو يمشي في فناء الدار: "لم يكن مرادي الدخول عليكم في هذه الساعة

لو لم أر البيت يشع نورًا على غير المعتاد؛ لأني لم أعهد المعلم فنحاس يظل

ساهرًا إلى ما بعد العشاء، فاستغربتُ ذلك وأحببتُ أن أعرف الباعث على هذه

السهرة، فأرجو أن يكون السبب احتفالكم بزواج، أو مجيء زائر." قال ذلك وهو

يمازح البواب لعله يبوح بشيء.

فأجابه: "ليس ثمة ما يُكْلِك(يقلق) الراحة، ولكني لا أأرف(أعرف) سبب

السهرة." ثم بدل الحديث حالًا فقال: "أتريد أن ترى سيدي الآن؟"

قال: "نعم. أين هو؟"

فقال: "إني ذاهب لأدءوه(لأدعوه) لك." وأسرع في مشيته حتى دخل في دهليز

ينفذ إلى سلم صعد عليه، وأبو العتاهية يتبعه لئلا يبقى خارجًا ويحدث ما

يمنعه عن الصعود. وكان الدهليز والسلالم كلها مضيئة بالشموع، ولكنه لم ير

أحدًا من الخدم أو الجواري في طريقه، ولم يكن يسمع ضوضاء ولا غوغاء، فعلم أن

القادم يريد التستُّر. ثم وصل حيان إلى غرفة تعوَّد أبو العتاهية أن يجالس فيها

فنحاس - وكانت مُظلمةً - فأدخل إليها حيان مشمعة فيها عدة شموع ودعاه للجلوس

فجلس. وذهب النبطي ليدعو مولاه، فمكث أبو العتاهية في انتظاره وهو يدبِّر

الحيلة للبقاء هناك تلك الليلة، ويودُّ أن يعرف مقر أولئك الضيوف في القصر،

فسمع صوت غلام يضحك، فعرف أنهم في غرفة قريبة من غرفته يعرف الطريق

إليها.

ثم عاد حيان وهو يقول: "إن سيدي ذهب إلى الفراش، هل أيكظه(أوقظه) ؟"

فاستبشر أبو العتاهية بنومه وقال: "دعه نائمًا وسأقابله في الصباح." قال

ذلك وتثاءب وتمطَّى وهو يُظهر التعب والنعاس، فقال له البواب: "هل تريد النوم،

أم آتيك بطعام قبلًا؟" - مع تحريف الأحرف بلفظه.

قال: "لا حاجة بي إلى الطعام، ولكنني أشكو التعب؛ فقد كنت في مكان بعيد

وتعبت من كثرة الركوب، ولما اقتربت من قصركم ورأيت الأنوار فيه قلق خاطري،

وأتيت أقضي ساعة مع المعلم فنحاس، فصرفت الدابة والمكاري، ولا أدري إذا

أردت الذهاب هل أجد دابة بقرب هذا المكان؟"

فقال حيان: "إذا كان لا بد من ذهابك فإن في الإصطبل دوابَّ كثيرة، ولكني

لا أرى حاجة إلى السرعة؛ فاسترح عندنا الليلة، وإذا شئت النوم أخذتُك إلى

حجرة فيها فراش."

فقال: "ولكني لا أستطيع النوم في النور على هذه الصورة."

قال حيان: "قد أخذنا في إطفاء الأنوار ولا تلبث أن ترى القصر

مظلمًا."

فقال: "إذا كان الأمر كذلك، فإنني أفضِّل النوم هنا على أن أذهب وأعود في

الغد؛ لأني جئت إلى المعلم فنحاس بأمر فيه كسب كثير بعون الله."

فازداد البواب رغبة في إبقائه لعلمه أن سيده يتوقع منه ذلك لكثرة جشعه

للمال، بالرغم مما عنده من الثروة الطائلة. وكان فنحاس إنما يهمه كسب المال

ولا يبالي بالطريقة المؤدية إلى كسبه، فكثيرًا ما كان يغضي في سبيل ذلك عن

أمور لا يغضي عنها الحرُّ. وعذره أن الناس على ضلال في أمر دنياهم، فهم

يتمسكون بأمور اعتبارية لا طائل تحتها يسمُّونها الشرف أو عزة النفس، ويبذلون

في سبيلها حياتهم، أو يضيعون فيها أموالهم، ويفوتهم كثير من المكاسب

الطائلة. وما كان الشرف يشبعهم إذا جاعوا، أو يدفئهم إذا تعرضوا للبرد، أو

يرويهم إذا عطشوا. أما المال فهو عنده السلطان أو هو الصولجان، فمن استولى

عليه كان سلطانًا تطأطئ له الرءوس ويخدمه الزملاء. تلك هي مبادئ المعلم

فنحاس. وكان أبو العتاهية يعرف ذلك فيه، وكثيرًا ما كان يستعين به في أعمال

يكسب بها الاثنان على نحو ما جاء به تلك الليلة.

فلما توسم البواب من أبي العتاهية ما يسرُّ مولاه ألح عليه في النوم هناك،

ودعاه أن يتبعه، فسار وأبو العتاهية ينصت ويتلفت لعله يعرف الغرفة التي

تتوق نفسه إلى معرفة سر أهلها، ثم وقف حيان أمام باب فتحه ودعاه إلى الدخول

والمشمعة بيده، فدخل وإذا هناك فراش على طنفسة لا بأس بها، فقال أبو

العتاهية: "هذا فراش نظيف. جزاك الله خيرًا." وأظهر أنه يريد النوم، فتركه

حيان ومضى. وكان أبو العتاهية قد عرف الجهة التي فيها أولئك الناس، فلما

ذهب حيان وأطفئت الأنوار ونام أهل البيت، نزع عمامته وعباءته وتخفف بطاقية

كانت على الفرش، وخرج يتلمس الحائط وركبتاه ترتجفان. وقد نام أهل القصر

وساد السكون على المكان، وأصبحت معرفة تلك الغرفة أقرب من حبل الوريد، فإذا

لم يدل عليها الصوت دلَّ عليها النور المنبعث من شقوق بابها.

الفصل السادس

التلصُّص

فما لبث أن وصل الغرفة وهو يسمع أناسًا يتكلمون همسًا كأنهم يحاذرون أن

يسمعهم أحد، فوقف بالباب ونظر من ثقب فيه إلى الداخل، فرأى امرأة عليها

ثياب الملوك وهيبة الملائكة، جالسة على سرير في صدر المكان، وفي حجرها ذانك

الطفلان وقد ضمتهما إلى صدرها، وأخذت تقبلهما وعيناها تتلألآن بالدمع، وفي

ملامح وجهها مزيج من علامات السرور والحزن. فلا تدري أهي تبكي فرحًا أم

حزنًا. وتفرَّس أبو العتاهية في تلك المرأة، فإذا هي بين الخامسة والعشرين

والثلاثين من عمرها، وفي وجهها جمال وهيبة لم يشاهد مثلهما، بالرغم من كثرة

ما رآه من الجواري الحسان في دور الخلفاء أو ولاة العهد، أو في دار جعفر

البرمكي أو غيره من البرامكة، ورأى فارقًا كبيرًا بين ما يعرف من جمال أولئك

وما في جمال هذه من الهيبة والوقار.

ولو تأملت في تلك الهيبة لرأيت مصدرها العينين، ولم تكونا كبيرتين ولا

واسعتين، ولكنهما ترسلان أشعة براقة، ولم يكن فيهما ذبول مثل سائر عيون

الغواني، بل كانتا حادتين يشعر الرجل إذا اتجهتا نحوه أنهما اخترقتا صدره،

وأصابتا قلبه، واستطلعتا خفايا سرِّه. ولم يكن لون الفتاة أبيض مع تفاخرهم

يومئذ بجمال ذلك اللون، بل كانت حنطية مشربة بحمرة، ولها مبسم ينطق بغير

كلام، ويدل على عواطفها كما تدل المرآة على ما يقابلها، ورأى أبو العتاهية

على جبينها عصابة مكللة بالجواهر، فدهش لهذه العصابة على الخصوص؛ لأنه لم

يكن رأى مثلها من قبل. وأول من اتخذ العصابة المكللة بالجواهر علية بنت

المهدي؛ أخت الرشيد، فعلت ذلك إذ كان في جبينها شيء من سعة شوَّه جمالها،

فاستحدثت العصائب المذكورة لتستُر ذلك العيب، فكان من أجمل الابتكارات. ولم

يكن أبو العتاهية قد رأى ذلك؛ لأنه لم يكن شائعًا.

وكانت قد صففت شعرها تصفيفًا بشكل جمَّة تعرف بالجمَّة السكينية، نسبة إلى

سكينة بنت الحسين؛ لأنها أول من صفَّفها. ورأى أبو العتاهية في مقدم تلك

الجمة طرة مرصعة بالماس على شكل طائر عيناه من الزمرد، وفي أجنحته فصوص من

الياقوت الأحمر مرتبة بين فصوص الماس ترتيبًا عجيبًا، وقد اختلط تلألؤها

بأشعة النور حتى توهَّم أبو العتاهية أن الغرفة مضيئة من نور تلك الطرة وليس

من الشموع. وقد غطت رأسها بخمار من الحرير عنابي اللون مزركش بالقصب، وفي

أذنيها قرطان كل منهما لؤلؤة واحدة بقدر بيضة الحمامة، وفي عنقها عقد من

الجوهر في غاية التناسب.

وأما ثوبها فمن أثمن المنسوجات، ولكنه كان في غاية البساطة؛ لونه سماوي،

وعلى حواشيه وشي دقيق، فذهل أبو العتاهية لمنظر تلك الفتاة وقال في نفسه:

"لا شك أن هذه الحورية من أهل بيت الرشيد، ولا بد أن وراءها سرًّا إذا اطَّلعت

عليه ابتززت الأموال به."

ونظر في جوانب الغرفة فرأى الرجل والمرأة لا يزالان بثياب أهل الحجاز

وقد جلسا على الأرض باحترام وهيبة، وخاصة الرجل. وكان كهلًا قد وخطه الشيب.

وتفرس أبو العتاهية في وجهه فلم ير فيه من ملامح أهل البادية، فعلم أنه

تنكَّر بذلك الملبس لغرض ما. وأما المرأة فلما رأى وجهها تبين له أن أصلها

جارية من الجواري وقد كبرت سنُّها. وأما صاحبته عتبة فلفتت انتباهه على

الخصوص، وكانت جالسة أمام السرير تخفف عن مولاتها وتلاطفها. وتأمَّل أبو

العتاهية في عتبة فرأى الجمال لا يزال في وجهها، وقد تغيرت عما كانت عليه

من قبلُ، فازدادت سمنة وبضاضة. وكانت في تلك الليلة مكشوفة الرأس وقد ضفرت

شعرها بضع عشرة ضفيرة، علقت في طرف كل منها قطعة من النقود أو الحلي، وفي

عنقها عقد ثمين، وفي يديها الأساور والدمالج، وعليها ثوب لونه أحمر مشجر

بعروق خضراء.

فدهش أبو العتاهية من تلك المناظر، واصطكت ركبتاه من التأثُّر، وأتعبه

الانحناء؛ لأنه لم يكن يستطيع النظر من ذلك الثقب إلا إذا انحنى، على أنه

ظل صابرًا يصغي لما يدور من الحديث هناك، وأول كلمة طرقت أذنه ساعة وصوله

إلى الباب عبارة عرف من لغتها أنها لصاحبته عتبة؛ وهي قولها: "لا بأس عليك

يا مولاتي. لماذا تبكين؟"

فرفعت تلك الفتاة رأسها إلى عتبة، وضمَّت الطفلين إلى صدرها وهي تقول

وصوتها مختنق بالبكاء: "قلبي يحدثني يا عتبة أنها آخر مرة أراهما

فيها."

فصاحت: "معاذ الله يا مولاتي، بل أرجو أن تتمتعي برؤيتهما مرارًا في كل

عام كما كنت تفعلين إلى اليوم. وهذا رياش - حفظه الله - لا يدخر وسعًا في

المجيء إلينا كلما أمرت، وعسى أن يقضي الله بإطلاق حريتك فيكونان معك في كل

حين."

فتنهدت الفتاة وقالت: "آه يا عتبة، إنك تتمنين محالًا؛ لأن عدونا ظالم

مستبد له السلطة المطلقة، وقد انغمس في ملذاته، وتمتع بكل ما تشتهيه نفسه،

وأصبح لا يبالي بسواه؛ أهلَك عطشًا، أو مات جوعًا، أو ذاب لوعة؟ إنه رجل لا

شفقة عنده ولا رحمة، لا يهمه سوى ملذاته." قالت ذلك وهي تخرج من كمِّها

منديلًا من الحرير مزركشًا بالقصب مسحت به دموعها.

فقالت عتبة: "تلك حال الرجال على الإطلاق، يا مولاتي، فإنهم أصحاب

السيادة، وقد فضَّلوا أنفسهم على المرأة، فحللوا لأنفسهم ما حرَموها منه،

وتمتعوا بما حظروه عليها. يتزوج الرجل عدة نساء، ويقتني الجواري والسراري،

ويمنع المرأة من أن تتزوج برجل تحبه ويحبها، ولكن ..."

فقطعت الفتاة كلام الجارية وقالت: "ليس بين الرجال مَن عَمِل عَمَل أخي، ولا

بين النساء من أُصيب بمُصابي ... وزوَّجني برجلٍ هو جمعني به وحبَّبه إليَّ وعقد له

عليَّ، ثم حرَّم علينا ثمار ذلك العقد ما حلَّله الله لأحقَرِ خَلْقه. وهو مع ذلك

يخطر في قصر وحوله مئات من الجواري الروميات والتركيات والفارسيات

والسنديات، وفيهن البيض والصفر والحمر والسمر والسود." ولما بلغت إلى هنا

غصت بريقها، وشرقت بدموعها، وكان الغلامان في حجرها وكبيرهما ينظر في وجهها

نظرة الاستغراب وهي تتكلم، فلما رآها تبكي شاركها في البكاء، ولما رآه أخوه

يبكي بكى أيضًا، وبكت عتبة ... وعلا ضجيج البكاء في تلك الغرفة.

ثم رأت عتبة أن تتجلد وتخفف عن مولاتها فقالت لها: "لا يخفى عليك يا

مولاتي أن أخاك أمير المؤمنين - حفظه الله - لم يمنعك من الزواج بذلك

الوزير إلا لعدم كفاءته، فإنك بنت خليفة، وأخت خليفة، يتصل نسبك بعم النبي

ﷺ، والوزير

مولًى فارسي مثل سائر الموالي، فكيف تتزوجينه ومثلك تتزوج أحد أبناء عمها

الهاشميين؟ فأمير المؤمنين مشهور بحبه لك، وإنما منعك من الزواج علوًّا

لمقامك."

فصاحت: "ويلك يا عتبة! ألا تزالين مخدوعة بهذه التمويهات. إذا كان أخي

يعد الزواج بالموالي أو العبيد حِطَّة لمقام الخلافة، فما باله يتزوج هو

بالجواري ويستولدهن ويولِّي أولادهن العهد بالخلافة. لعل الجارية أرفع مقامًا

من المولى؟! ناهيك بما في قصوره من الجواري للتسري بلا عقد. فلماذا لم

يقتصر بالزواج على ابنة عمه زبيدة مع ما يظهره من حبه لها واحترامها؟ ولكنه

أطاع شهواته ولم يجد مَن يصدُّه فانغمس فيها، ورآني ضعيفة فاستبدَّ بي. عرَّفني

بشابٍّ لا أعرف في أبناء عمي من بني هاشم أحسن منه، وزوجني به، ثم منعني منه،

وأصبحنا نعد التقرب خيانة، ونخشى أن يطَّلع أحد على سرِّنا كأننا من أهل الفجور

- نعوذ بالله - ولكن مَن يستطيع أن يقول ذلك لأخي ولا تكون حياته في

خطر؟!"

الفصل السابع

العباسة

وكان أبو العتاهية قد آلمه ظهره وهو منحنٍ عند الباب ينظر من ذلك الثقب

وقدماه ترتعدان، وهو يمسك أنفاسه مخافة أن يشعر به أحد. فلما سمع ما دار من

الحديث، علم أن الفتاة هي العباسة أخت الرشيد. وكان يعرف أن الرشيد عقد

عليها لجعفر بن يحيى البرمكي؛ وزيره؛ ليحل له النظر إليها؛ لأن الرشيد كان

يحب جعفرًا ويحب الاجتماع به، ولا يصبر على بعده، وكان الرشيد يحب أخته

العباسة أيضًا، ويجب أن يراها كثيرًا، فعقد لجعفر عليها حتى يحلَّ له أن يراها

فقط، وخوَّفه مما وراء ذلك.

وعلم أبو العتاهية مما رآه وسمعه أن جعفر تزوج العباسة سرًّا، وأن

الغلامين اللذين معها هما ثمرة ذلك الزواج، وأنها تخاف أن يعرف أخوها

الرشيد بذلك فيقتلها، فخفق قلب أبي العتاهية فرحًا بذلك الاكتشاف؛ لما يرجوه

من الكسب الكثير بواسطته؛ لعلمه أن أعداء جعفر يبتاعون مثل هذه الوشاية

بألوف من الدنانير، وخاصة الفضل بن الربيع؛ لأسباب تقدَّم ذكرُها. ودمعت عينا

أبي العتاهية لا تأثرًا لحالة العباسة، بل من طول حملقته وتطلعه من ذلك

الثقب، وأحس وهو في تلك الحالة الحرجة أن العطاس يكاد يدهمه، فخشي أن يعطس

فيفتضح أمره، فجعل يفرك أرنبة أنفه حتى أذهب العطاس، فعاد إلى التلصص

والتفرس. وكان قد سمع عتبة تخفف عن العباسة وتقول لها: "دعينا من النواح

الآن؛ فقد تكبدتِ المشقة والخطر لتشاهدي ولديك؛ فاستمتعي برؤيتهما، ودعي

المقادير تجري بما يشاء الله."

فأطاعتها، وكان الغلامان في حجرها وهما شاخصان إليها، وقد استغربا ما

رأياه منها. فلما رأتهما ينظران إليها والدمع لا يزال في عيونهما لم تتمالك

عن الابتسام وعيناها تقطران دمعًا، وتناولت الكبير وضمته إلى صدرها، وجعلت

تقبِّله في خديه، وفي عينيه، وجبينه ورأسه وعنقه وصدره، وتستنشق رِيحه، وهو

غارق في الضحك يظنها تلاعبه أو تداعبه. وأنَّى له أن يشعر بما يجول في خاطرها

أو بما يهيج من عواطفها، وهو لا يعرف من ملاذِّ الدنيا إلا الطعام والشراب،

ولم يكابد من حوادث الزمان إلا اللعب بالرمل أو بالكعاب، أو بغيرهما من

الألعاب؟! وما مطامع الدنيا عنده إلا ثدي أمه، فإذا فطم كان همُّه بطنه،

ومطمعه عجلة يديرها، أو كرة يلعب بها، وتسليته حصًى يبني بها بيتًا، أو طينًا

يصنع منه تمثالًا. يرى الميت فيظنه نائمًا، ويلقى الثعبان فيحسبه حبلًا. لا

يخاف الهجر، ولا يُحاذر الفقر، ولا يعرف نوائب الدهر. ربما أحب هرة تلعب بين

يديه أكثر مما يحب والديه؛ لأنه يحب كل ما تنتهي يده إليه. ولو عقل لقاس

تعلقه بطير عاشره بضعة أيام ثم ذهب عنه؛ كم يكون أسفه عليه! فكيف يكون تعلق

الوالدة بابنها وهو حشاشة قلبها، وقطعة من نفسها، ومثال حبيب قلبها؟! لا

لوم على الأطفال إذا لم يدركوا حب الوالدة؛ لأنه سر مغلق على غير الوالدين.

ومهما يكن من ارتقاء عواطف الشبيبة، واختلاطهم بالعائلات، ومشاهدتهم حنوِّ

الوالدات، فهم لا يدركون حقيقة ذلك الحنوِّ حتى يولد لهم الأولاد، فيذوقوا

مرارة التربية وحلاوتها بين مداعبة ولدٍ يشرق وجهه صحة، ويسيل كلامه لطفًا،

وتزيده اللكنة عذوبة، وسهر على طفل يقاسي الألم، ويعجز عن التعبير عن موضعه

لاحتباس كلامه، أو يكتمه خوفًا من مرارة الدواء. والوالدان بين ذلك يراقبان

حركاته، ويحصيان أنفاسه، وقد غلَّت أيديهما، وتفطر قلباهما، وضاقت الدنيا

عليهما، ولا سيما الوالدة، فإنها ألصق بولدها في طفولته؛ إذا مشى مشى قلبُها

معه، أو ضحك رقصت جوارحها له، وإذا تكلم كانت كلها آذانًا لعله يلتمس منها

شيئًا يسرُّه ويسرُّها أن يناله، ولو كان في الظفر به شقاؤها. وهي تزداد حبًّا له

كلما تعذبت في تربيته، ويزداد حنوها عليه بزيادة شقائها به. فمن أين لغير

الوالدين أن يفقهوا ذلك، أو يدركوا حنان الوالدة؟ حتى المتزوجين الذين لم

يرزقوا أولادًا، فإنهم لا يستطيعون إدراك حب الوالدة لولدها إلا تخيلًا. وأين

الحقيقة من الخيال؟

الفصل الثامن

البغتة

فكانت العباسة تستنشق ريح ابنها وهي تجهش بالبكاء، وقلبها يتردد بين

اليأس والرجاء، والغلام يضحك والسذاجة الفطرية ظاهرة في وجهه، وسلامة النية

وطهارة القلب باديتان في كل حركة من حركاته. وقد أصاب المصورون إذ شبهوا

الملائكة بالأطفال، فإنهم مثال الطهارة والقداسة وصدق اللهجة، فهم لا يُخفون

عواطفهم، ولا يكظمون ما في نفوسهم؛ ولذلك كانت المشاعر الطبيعية ظاهرة

فيهم، وأقواها حب الذات؛ فالطفل يحب ذاته، ويحب كل ما يرى فيه نفعًا لنفسه،

وهو يحسد ولكنه لا يكظم، بل يظهر ذلك فيه، ولا يستحي من إظهاره؛ ولذلك لما

رأى أحد الأخوين أمه تلاعب أخاه وتقبِّله ألقى نفسه على صدرها كأنه يزاحمه

على ما يكنُّه ذلك الصدر، فقبَّلته العباسة ثم التفتت إلى عتبة وعيناها تتكلمان

عنها، وما تمالكت أن قالت لها: "ما ألطف هذين الولدين! وما ألطف اسميهما

"الحسن والحسين"! هل يسمح لي الله أن أعيش معهما ولو في كوخ حقير، أو في

خيمة بالبادية؟!"

فابتدرتها عتبة قائلة: "إن الله على كل شيء قدير. ألا تظنين أن رجوعك

إلى قصرك قد آنَ؛ فإن الفجر أصبح قريبًا، وأخشى أن يشعر أحد برجوعك فنقع فيما

نخشاه؟"

قالت: "يعز عليَّ الذهاب يا عتبة، ولكن لا بد منه. أين الدراهم التي أتيت

بها معك؟ ادفعيها إلى رياش."

فتناولت بدرة من الدراهم ودفعتها إليه، فتناولها وأثنى على العباسة،

ونهض فقبَّل يدها. وكذلك فعلت برة، فقالت لهما العباسة: "لا حاجة بي أن

أوصيكما بالحسن والحسين؛ فإنهما فلذة كبدي."

وكان الحسن أكبرهما سنًّا، فلما تحقق من عزم والدته على الفراق ورآها

وقفت، ألقى بنفسه في حضنها، وأمسك بيدها، وأسند خدَّه على راحتها، وقال وصوته

مختنق: "تعالي معنا يا ماما، وقولي لأبي يجيء معنا أيضًا."

فنظرت العباسة إلى الغلام فرأته يرنو إليها وفي عينيه دمعتان تترددان

بين المآقي، وشفتاه ترتجفان ولا تطاوعانه على الكلام. وكان يحاول الكلام

ويحاذر أن يسبقه البكاء وقد غص بريقه. فلا تسل عن قلب العباسة عند سماعها

تلك العبارة ومشاهدتها ذلك المنظر المؤثر، وقد كانت تخشى فراقهما وتغالب

نفسها وتتجلد وقد ضاق صدرها لاحتباس عواطفها، فلما رأت ما رأته، وسمعت

الحسن يذكر والده ويطالبها به على تلك الصورة، غلبتها عواطفها وأحسَّت بما

تكابده من ألم الفراق وثقل الحذر والخوف، فلم تتمالك أن جلست بغتة وهي تضم

الغلام إلى صدرها وتصيح: "صدقت يا ولداه." وأغرقت في البكاء حتى أغمي

عليها.

وكانت عتبة واقفة ترقب حركات مولاتها وتشاركها في كل عاطفة من عواطفها،

وقد همَّت أن تخفف عنها، فلما رأتها جلست بغتةً خافت عليها من الإغماء؛ لأنها

شاهدت إغماءها على تلك الصورة غير مرة، فلما سمعتها تصيح وتبكي تحققت من

غيبوبتها، فتناولت إحدى الشموع من المشمعة وهرعت إلى الباب وفتحته؛ لتستدعي

خادمًا يأتيها بالماء لترش سيدتها. وكان أبو العتاهية لا يزال واقفًا ينظر من

ثقب الباب. فلما أسرعت عتبة إليه وفتحته على غير انتظار والشمعة بيدها، بُغت

وارتبك في أمره، وكاد الدم يجمد في عروقه، فوقف كأنه صنم من الأصنام وبصره

شاخص كأنه لا يرى شيئًا. أما عتبة، فظنته لأول وهلة أحد خدم المنزل، فصاحت

به: "هات الماء." ثم علمت من ملبسه أنه ليس من الخدم، فاستغربت وقوفه هناك

على هذه الصورة. أما هو فلم يطل جموده إلا لحظة، ثم انتبه لنفسه وحوَّل وجهه

وهمَّ بالفرار، فلما تحرَّك تذكَّرت أنها تعرفه، ثم فطنتْ إلى أنه أبو العتاهية،

فأشكل عليها أمره وهي على تلك الحال من القلق خوفًا على سيدتها من الإغماء،

فغلب عليها ذلك القلق فأسرعت إلى غرفة الخدم وصاحت بهم، فنهض أحدهم وجاءها

بالماء، وعادتْ إلى سيدتها ورشَّتها به فأفاقتْ. وأخذت تخفِّف عنها وخاطرها مشتغل

بأبي العتاهية، وأدركت من ارتباكه عند رؤيتها له أنه كان يتلصص عليهم، ولا

بد أنه سمع شيئًا من أحاديثهم، وهي تعلم أنه لا يؤتمن على مثل هذا السر، وأن

اطلاعه على أمر هذين الغلامين خطر على العباسة، فكانت تخاطب مولاتها وتخفف

عنها والقلق والارتباك باديان على وجهها، وهي تتردد بين أن تُطلع العباسة

على هذا الأمر أو تكتمه عنها، ولكنها فضَّلت كتمانه لئلا تزيد من أحزانها

ومخاوفها.

على أنها عزمت على أن تدبِّر وسيلة تمنع بها أبا العتاهية من إفشاء هذا

السر، فلما فكَّرتْ في ذلك ذهب قلقها وعادت إلى التهوين على العباسة والتخفيف

عنها، وأشارت إلى رياش أن يذهب هو وبرَّة بالغلامين أولًا، فأطاعها ونهض فحمل

الغلامين على كتفيه وهو يلاعبهما ويضاحكهما. وكانا قد تعودا عليه، وعرف هو

ما يلهيهما به من المواعيد أو نحوها، فسكتا وظلتْ عتبة بجانب العباسة

تشاغلها وتسايرها وهي تتنهد ولا يزال أثر الإغماء باديًا عليها. فلما خرج

رياش وبرَّة، أمرت الخادم الذي كان قد جاءها بالماء أن يستدعي حيَّان، فذهب ثم

عاد وحيان معه وآثار النوم ظاهرة في عينيه؛ لأنهم نادوه وهو مستغرق في

النوم فجاء وعلى رأسه طاقية لم تستر إلا بعض شعره، فوقف بين يدي عتبة فقالت

له: "إن مولاتي تطلب منك أن ترسل مع هذين الغلامين من يدبر لهما مركبًا

يركبان عليه إلى دجلة."

الفصل التاسع

الهاجس

فأشار بيده على رأسه إشارة الطاعة وخرج، وظلت العباسة وعتبة في انتظاره،

ثم أظهرت عتبة أنها تحتاج إلى شيء من حيان، فخرجت للقياه وهو عائد فدعتْه

إلى خَلْوةٍ، فخاطبته وفي يدها منديل فيه نقود وضَعَتْه في كفِّه وهي تقول: "أمرتني

مولاتي أن أشكرك على الخصوص لعنايتك بنا، وهذا المنديل هو لك هدية منها."

ثم مدت يدها وأخرجت صرة أخرى دفعتها إليه وقالت: "وهذه للمعلم فنحاس."

loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
loading
Indice